البوديتشيتا في سياق البراميتات الستة

البوديتشيتا المُعتادة والبوديتشيتا الأعمق

هناك حقيقتان للبوديتشيتا: البوديتشيتا المُعتادة أو النسبية والبوديتشيتا الأعمق. البوديتشيتا موجهه إلى استنارتنا الشخصية المستقبلية التي لم تحدث بعد، لكن على أساس من طبيعة بوذا الخاصة بنا وبقدر كبير من الجهد والعمل، هذه الاستنارة شيئ بالتأكيد يمكن تحقيقه. ولأننا مقتنعين بأنه من الممكن تحقيقها ولدينا فكرة دقيقة عمَّا نسعى إلى تحقيقه، عندها مع البوديتشيتا المُعتادة نحن نستهدف حقيقة هذه الاستنارة المستقبلية – ما الذي ستكون عليه، خصالها وخلافه – مع نيتين بداخلنا: نيه تحقيق هذه الاستنارة من خلال أدوات واقعية ستحقق لنا هذا، ونية نفع جميع الكائنات بأفضل شكل ممكن من خلال الأدوات التي سنكتسبها بسبب هذا التحقُّق. نحن نفهم جيدًا أننا لن نصبح إله كليّ القدرة كل ما يحتاجه هو أن يشير بأصبعه – حتى لن يحتاج لأن يشير بأصبعه – وستُحَل مشاكل الجميع. هذا مستحيل. لكن يمكننا تعليم الآخرين من خلال توجيهات واقعية، والمثال الذي نقدمه لكيفية تحقيقهم للاستنارة. بعد ذلك الأمر متروك لهم ليقوموا بذلك فعليًا.

بشكل أكثر تحديدًا، البوديتشيتا تستهدف الوصول إلى وذهن استنارتنا التي لم تحدث بعد – الوعي العميق الدارماكايا. البوديتشيتا الأعمق تستهدف إدراك الخلو وتحقُّقات الإيقاف الحقيقي الخاصة باستنارتنا التي لم تحدث بعد – السفابافاكايا (الطبيعة الجوهرية للجسد، أجساد الطبيعة الجوهرية).

الحالات الذهنية التي تصاحب البوديتشيتا

البوديتشيتا المُعتادة تصاحبها حالات ذهنية متعددة، تحدث معها في نفس الوقت، وتُشكِّل جزءًا من دافعنا لتحقيق الاستنارة. هذه الحالات الذهنية المصاحبة تُركز أولًا على جميع الكائنات – وهو ما يعني حرفيًا كل كائن واعٍ (أو كائنات محدودة الجسد، محدودة الذهن) بتساوٍ مطلق، إذًا نحن نتحدث حتى عن كل حشرة، كل الكائنات – بالحب، وهو أمنية أن يكونوا سعداء وأن يحظوا بأسباب السعادة، والشفقة، وهي أمنية أن يتحرروا من المعاناة ومن أسبابها. لذا فالحب يستهدف فعليًا سعادة ورفاهية تلك الكائنات الواعية، وأن تزيد هذه السعادة وتنمو. والشفقة تستهدف معاناتهم، أمنية أن يتحرروا منها. تلك الحالات الذهنية للحب والشفقة تصاحب تركيزنا على استناراتنا التي لم تحدث بعد.

يجب أن يكون واضحًا لدينا ما الذي تُركز عليه تلك الحالات الذهنية وكيف تُركز عليه، من أجل أن نستطيع فعليًا توليدهم. وإلا فلن يكون لدينا أدنى فكرة عما نفعل بأذهاننا ومشاعرنا عندما نتأمل على الحب أو الشفقة، أو البوديتشيتا في هذا الخصوص. كما أوضح قداسة الدالاي لاما، عند التأمل على الشفقة، الأمر ليس مجرد تمني أن تذهب هذه المشاكل دون أن يكون لدينا أي فكرة أو اِقتناع أنه من الممكن حقًا للكائنات المحدودة أن يتخلصوا بالفعل من مشاكلهم؛ الشفقة قائمة بالأساس على فهم أنه من المُمكن لجميع الكائنات المحدودة أن تتخلص من هذه المشاكل. وإلا أصبحت أمنية عبثية. يصاحب الشفقة كذلك فهمًا للكيفية التي ستتخلص بها الكائنات المحدودة من مشكلاتهم. الأمر ليس كأن منقذًا ما كليّ القوى، سينقذهم؛ فالشفقة تشتمل على شجاعة مساعدتهم حقًا في التغلب على مشاكلهم. هناك فهم – دائمًا هناك فهم – مع تلك الأحاسيس أو المشاعر، مع تلك المشاعر الإيجابية.

ولدينا أيضًا، مصاحبًا للبوديتشيتا الخاصة بنا، حالة ذهنية أو شعورية أخرى، أو أيًا ما نرغب في تسميتها به، والتي يُطلق عليها العزيمة الاستثنائية أو التصميم. لذا نُركز على جميع الكائنات بظروفهم المختلفة بشكل متساوٍ، ثم نولد هذه العزيمة الاستثنائية التي يشير إليها قداسته أحيانًا على إنها المسئولية العالمية؛ إنها ليست فقط الشجاعة في محاولة مساعدتهم، لكنها عزيمة مكرسه بالكامل لتحقيق هذا الهدف: "سأحاول بقدر استطاعتي مساعدتهم، نفعهم. أن أتحمل مسئولية ذلك، لديّ ذلك الحس بالمسئولية لأن أقوم فعلًا بهذا، لأن أقوم بشيء من أجل تحقيق ذلك".

ولذا فالحب، الشفقة، المسئولية العالمية، والبوديتشيتا. جميعهم حالات ذهنية مُستقلة تمامًا، على الرغم من أنهم بالتأكيد يتواجدون سويًا، لكن من المهم ألا نخلط بينهم، وأن يكون لدينا فكرة واضحة عن كلٍ منهم – ما هم، ما الذي يركزون عليه، وكيف يركزون على الشيء محل التركيز– من أجل ألا تفقد حالتنا الذهنية أي شيئ، ونولدها بالشكل الملائم.

طموح البوديتشيتا والانخراط في البوديتشيتا

الآن، بداخل البوديتشيتا المُعتادة، هناك مرحلة طموح (تمني) البوديتشيتا، والتي نتمنى فيها تحقيق الاستنارة من أجل نفع الجميع. ثم هناك مرحلة الانخراط، والتي بها نحن ننخرط بالفعل في السلوك، التصرفات، التي ستُحقق لنا هذا الهدف. لذا أولًا نحن ننمي حالة التمني، ثم حالة الانخراط.

حالة التمني تلك بها مرحلتَين، الأولى الطموح البسيط للبوديتشيتا، حيث نتمنى أن نحقق الاستنارة فحسب، الثانية تعهد طموح البوديتشيتا، والتي بها يكون لدينا عزيمة قوية ونقرر أننا لن نتخلى أبدًا عن هذا الهدف. وعندما نحقق حالة التعهد بالبوديتشيتا تلك، بالبوديتشيتا المُعتادة، عندها تستلزم هذه المرحلة، كجزء منها، أن نأخذ عهود البوديساتفا. هما يسيران سويًا. لا يمكننا تنمية حالة تعهد طموح البوديتشيتا دون أخذ عهود البوديساتفا.

العهد هو تشكيل للذهن، تشكيل للتصرفات، وضع حدودًا معينة والتي لن نتجاوزها. "سأتجنب مدحي لنفسي والتقليل من شأن الآخرين لأنني متعلق بتحقيق الشهرة، وأن يحبني الآخرين، وبالحصول على الحب والمال، وكل تلك الأشياء". هذه نوعية الأشياء التي نُلزم أنفسنا بألا نقوم بها، لأننا إذا اِتبعنا هذه الطريقة في التصرف، فهذا سيضر جدًا بقدرتنا على مساعدة الآخرين. نحن فقط نستغل الآخرين ونقول، "أنا الأفضل"، مثل أن يكون لدينا، دعونا نفترض، بشكل عام، أشخاصًا يرغبون في الترشح لمنصب بالحكومة ويرغبون في القيام بهذا فقط من أجل السلطة، ولذا فحملتهم قائمة على: "أنا الأفضل والمرشحين الآخرين سيئين. الآخر هو الشيطان". لا يمكنك أن تثق في شخص كهذا. هذا يضر بقدرتهم على مساعدة الآخرين، لأنهم فعليًا يُضخمون فقط من أنفسهم من أجل أن يصلوا إلى السلطة. لهذا السبب، كامل مفهوم العملية الانتخابية والحملة الدعائية الخاصة بها هو شيئ غاية في الغرابة على التبتيين ويصعب عليهم جدًا تصورها أو المشاركة بها، لأن الطريقة التي تُقام على أساسها الحملات الانتخابية في الكثير من الدول تتعارض بالكامل مع مبادئ البوديساتفا. "أنا الأفضل، الشخص الآخر ليس جيدًا".

شانتيديفا، المعلم الهندي العظيم الذي ألَّف كتاب الانخراط في سلوك البوديساتفا، كتب بالفصل الرابع:

البيت الثاني – في حالة التعهدات التي أخذناها بشكل مفاجئ، أو بدون تفحص كافي، عندها، من الملائم بعد ذلك إعادة النظر فيما إذا كنت سأقوم بها؟ أم التخلي عن الأمر. هل أستطيع القيام بذلك، أم أن هذا شيئ لا يُمكنني القيام به؟
البيت الثالث – لكن في حالة عهود البوديساتفا والعمل من أجل تحقيق الاستنارة، فقد تم تفحصها بعمق من قِبَل البوذات، وقمت بتفحصها بنفسي جيدًا جدًا، فكيف لي على الإطلاق أن أتحول بعيدًا عنه؟

 العهود (هم متاحين على موقعي، بشرح وافٍ، تحت قسم العهود بموقع أرشيف بيرزين) لنتفحصهم ونختبرهم: قال شاكياموني بوذا، "حسنًا، إذا أردت أن تصل إلى الاستنارة، هذا ما تحتاج إلى تجنبه إذا أردت حقًا نفع الآخرين"، ثم نتفحص بأنفسنا بشكل جيد جدًا: "هل هذا شيئ استطيع اتباعه أم لا؟" ثم بعدها نأخذ هذه العهود. إنها ليست شيء نقوم به بتسرع لأن الآخرين يقومون به وهناك معلمًا ما سيعطي تلك العهود، لذا فنأخذها دون تفحص كافٍ لها. لذا أشار شانتيديفا إلى ذلك بوضوح شديد.

تعريف مَدْرَسَتَيّ سفاتانتريكا وبراسانغيكا للبراميتات

من أجل أن نحافظ حقًا على عهود البوديساتفا، ما الذي يستلزمه هذا الأمر؟ هذا يستلزم، في الأساس، تنمية الست… الكلمة في السنسكريتية هي باراميتا؛ عادة ما تُتَرجَم إلى الاكتمالات، لكنني أُفضل أكثر الترجمة الحرفية لها، والتي ستكون "الموقف الداخلي الذي سيحملنا بعيدًا". سيأخذنا بعيدًا جدًا جدًا، كامل الطريق إلى الشاطئ الآخر، وهو الاستنارة.

في البوذية الهندية هناك عدد من الأنظمة، المدارس الفكرية المختلفة، بأحدهم (تدعى سفاتانتريكا)، بناء على هذا النظام، فقط في حالة بوذا – أعني، عندها فقط سيكون لكلمة باراميتات معنى – عندها في حالة بوذا، ستكون تلك البراميتات حقًا المواقف الداخلية التي ستحملنا بعيدًا. عندما نعمل بها كبوديساتفا (وحتى قبل أن نصبح بوديساتفا، عندما نأخذ عهود البوديساتفا)… لأننا نصبح بوديساتفا فقط عندما يكون لدينا البوديتشيتا دون جهد – أي أننا لا نحتاج لأن نمر بعملية توليد البوديتشيتا بمراحلها المختلفة من، "جميع الكائنات كانوا أمي" إلخ، من أجل أن ننمي البوديتشيتا. ستكون حاضرة لدينا طوال الوقت، بالليل والنهار، عندها سنصبح حقًا بوديساتفات – حينها ستكون هذه المواقف الداخلية التي ستحملنا بعيدًا مجرد نموذج تقريبي للمواقف الداخلية الحقيقية في حالتها الكاملة لدى البوذات.

بينما في نظام البراسانغيكا في كلٍ من المرحلتين – من عهود البوديساتفا وحتى الاستنارة، كذلك في الاستنارة نفسها – سيطلق عليها في كلٍ منهما "المواقف الداخلية التي ستحملنا بعيدًا".

أيا كان النظام الذي نتبعه منهما، فنحن نتحدث عن الشيء ذاته. ذكرته هنا لأن بعض المدارس تتبع أحدهم والأخرى تتبع الثانية.

العشر براميتات

 هناك عرض إضافي ينطوي على عشر براميتات، والتي به يوجد أربعة إضافيين مشتقين في الأساس من البراميتا السادسة، الوعي التمييزي الذي سيحملنا بعيدًا أو براميتا الحكمة، براجناباراميتا. لذا سواء كنا نتحدث عن المواقف الداخلية الستة، أوبطريقة أكثر شمولًا، العشرة، هذه حالات ذهنية – مواقف داخلية – هم ليسوا بالضرورة على هيئة سلوك، إلا إنهم يُشكلون سلوكياتنا: فنحن نتصرف بناء عليهم، نضعهم موضع التدرُّب، بقدر الإمكان وفقًا للموقف، ولقدراتنا . لكن ما نعمل على تنميته فعليًا هو تلك المواقف الداخلية، تلك الحالات الذهنية. وقد أوضح شانتيديفا ذلك بشكل كبير جدًا.

علينا أيضًا ألا نفكر في أن نظام المواقف الداخلية العشرة التي ستحملنا بعيدًا خاص بتقليد الماهايانا فقط. لدينا أيضًا الأمر ذاته في ثيرافادا تقليد الهينايانا. هناك مجموعة العشرة براميتات والتي تختلف بشكل طفيف بين كلا التقليدين: الكثير منهم متشابه ولكن هناك اختلافات في البعض الآخر. مرة أخرى، كما ذكرنا، الفارق بين تقليد الهينايانا والماهايانا – لأنهم يتدربون على الكثير من الأشياء المتشابهة – يوجد على مستوى التكريس أو القوى الإيجابية، هل هي مكرسه من أجل تحقيق التحرر أم نحو تحقيق الاستنارة. فهم يتدربون على العشر براميتات، والذين تشتمل على العديد من تلك المواقف الداخلية التي لدى الماهايانا، مع تكريس هذه الطاقة الإيجابية للمساهمة في تحقيق التحرر الفردي.

لا يجب أن نفكر أبدًا في أن متدربي الهينايانا لا يعملون على نفع الآخرين وإنهم ليسوا كرماء وصبورين وخلافه. بالتأكيد هم كذلك، ولديهم الحب، وينمون الشفقة، وكل تلك الأشياء. لذا في نصوص الماهايانا، هم فقد يقدمون النموذج المتطرف نوعًا ما لموقف الهينايانا – إنك فقط تعمل بشكل أناني لنفع نفسك، أنت لا تهتم بالآخرين – من أجل توضيح التطرف الذي علينا تَجَنبه. لا يجب علينا أن نفكر، خاصة هذه الأيام، أن متدربي الثيرافادا على هذه الشاكلة. يمكننا أن نجد متدربين في الماهايانا على تلك الشاكلة، كما سنجد متدربين في الهينايانا على الشاكلة الأخرى.

هذه هي الطريقة المتبعة في مدرسة البراسانغيكا بالماهايانا، المادياماكا، والتي تصل بالأمور إلى حد الاستنتاجات السخيفة، المتطرفة، فقط لمساعدة الآخرين على تجنب الخطورة التي قد تكون موجودة في طريقة تفكير بعينها. على سبيل المثال كاستنتاج سخيف متطرف، العمل على تحقيق التحرر الذاتي قد يتحول إلى الانشغال التام بالذات وعدم الاهتمام بأي أحد – فأنت لا تقوم بأي شيء لمساعدة الآخرين، ليس لديك حب ولا شفقة – بشكل مشابه، نستطيع أن نَدَعي أن الاستنتاج السخيف المتطرف فيما يخص الماهايانا هو أنك تعمل على مساعدة الآخرين طوال الوقت، ولا تعمل على محاولة التغلب على غضبك وتعلقك وخلافه. والذي بالمثل سيكون خطأً كبيرًا. لذا علينا أن نفهم المنهجية المستخدمة هنا وألا نقع في الخطأ الشديد للطائفية، أن نفكر أن الماهايانا أقوى نقديًا من الهينايانا. لهذا السبب في عهود البوديساتفا هناك العديد من العهود تتحدث عن عدم الحط من الهينايانا.

دعونا نتبع في عرضنا هذا النسخة المختصرة … النظام الأساسي للستة مواقف الداخلية التي ستحملنا بعيدًا. وهم :

  • الكرم
  • الالتزام الذاتي الأخلاقي 
  • الصبر
  • المثابرة
  • الثبات الذهني (التركيز)
  • الوعي التمييزي (الحكمة).

الفرق بين الوعي التمييزي والوعي العميق

في اللغة الإنجليزية، كلمة الحكمة تُستخدم في ترجمة العديد من المصطلحات التقنية المتعددة والمختلفة تمامًا، والتي باستخدامها نفقد القدرة على التمييز بين كل تلك المصطلحات، لذا فأنا استخدم هنا الوعي التمييزي للبراميتا السادسة.

أقوم كذلك بالتفرقة بين كلمتَين تبتيتَين أُخرتَين – تتم ترجمتهم إلى الحكمة أيضًا (وعندها يُفقَد فرق المعنى بين الكلمتين). الأولى هي الوعي التمييزي، شيراب بالتبتية، أو براجنا بالسنسكريتية. الكلمة الثانية هي الوعي العميق، يٰشى بالتبتية، أو جانا بالسنسكريتية. كلا الكلمتان مختلفتان تمامًا، لذا فسأشرح الفرق بينهما.

على الرغم من وجود استخدامات مختلفة لتلك الكلمات، إلا إننا إذا حاولنا أن نكون اكثر وضوحًا ولو قليلًا، تعريف الوعي التمييزي هو… إضافة اليقين إلى القدرة على التمييز بين الأشياء. التمييز – غالبًا ما يُترجم إلى الإدراك – وهو التفرقة بأن هذا الشيء كذا وليس كذا. هذا يُضيف اليقين والثقة للتمييز. إذًا، المعنى هنا هو التمييز بين ما هو بنَّاء وما هو هدَّام، بين ما هو نافع وما هو غير نافع، بين ما هو ملائم وما هو غير ملائم، ما هو دقيق وما هو غير دقيق فيما له علاقة بما هو واقعي وما هو غير واقعي. لذا فهو عادة ما يرتبط بالخلو. فهم الخلو هو الذي يعمل على تمييز أن الأشياء لا توجد بهذه الطريقة المستحيلة، وإنما هي تتواجد بالطريقة الممكنة لوجودها بالفعل. هذا هو الوعي التمييزي.

حتى الدودة لديها وعي تمييزي. فالدودة تستطيع التمييز – كونوا واثقين من ذلك – بين ما هو صالح كطعام وما هو غير صالح كطعام. البقرة بإمكانها التمييز بين باب الحظيرة المفتوح وحائط الحظيرة فلا ترتطم به. لذا، أن نُطلق على ذلك حكمة فهذا لا يتناسب مع هذا السياق.

إذا تحدثنا في سياق الخلو، عندها فإن الوعي التمييزي هو فقط الحقيقة العميقة للأشياء، خلوها. إنما على الجانب الآخر، الوعي العميق، هو الوعي بالحقيقَتَين، إما الحقيقتان معًا أو الحقيقتان في سياق بعضهما البعض. لكن، الوعي العميق هو جزء من طبيعة بوذا كذلك، وهي شيء في غاية العمق ونمتلكه جميعًا، إذًا فهو يُشير إلى شيء مشابه للمرآة (القدرة على تلقي المعلومات)، المُساواة (رؤية الأنماط، وتجميع الأشياء سويًا)، التفرُّد (الوعي بخصوصية هذا الشيء أو ذاك)، إلخ.

في سياق جوانب طبيعة بوذا تلك، فالدودة تمتلك ذلك أيضًا. لذا، مرة أخرى، تسميتها حكمة غير مريحة إلى حد ما.

مصطلح الوعي العميق من الممكن أن يُستخدم باختلافات طفيفة في مختلف التقاليد التبتية. لكن على أية حال، فإنه غير مماثل للوعي التمييزي. في تقليد الغيلوك، يستخدم لوصف ما يمتلكه الأريا – شخص لديه إدراك غير نظري للخلو – كمعنى إضافي للكلمة.

الشبكتان (المجموعتان)

من أجل الوصول إلى الاستنارة – من أجل الوصول لأيٍ من الأهداف بالبوذية، الأهداف الروحانية – نحتاج أن نُقوي ونبني شبكتين. هاتان الشبكتان لدينا جميعًا بالفعل، كجزء من طبيعة بوذا، ولكن بدرجات متفاوتة؛ الأمر ليس كما لو أننا سنبدأ من الصفر، لكن نحتاج إلى تقويتهما، بناءهما أكثر وأكثر. بناء على ما سنُكرس تلك الشبكتين لتحقيقه، قد نستهدف منهما بناء السامسارا (حينها لن نقوم بأي نوع من التكريس، وسنعمل فقط على تحسين وضعنا في السامسارا)، أو يمكننا تكريس هاتَين الشبكتَين لبناء التحرر (نكرسهم للتحرر) أو بناء الاستنارة (نكرس كلًا من الشبكتين من أجل تحقيق الاستنارة). لذا، مرة أخرى، التكريس هو شيئ حاسم للغاية.

كلا الشبكتان تتكونان من عدد هائل من المكونات، هما ليسا شيئًا غير متفاعل كمجموعة من الطوابع مثلًا، كل هذه المكونات المختلفة متصلة ومتشابكة فيما بينها وتعزِز بعضها بعضًا، لذا يُطلق على كل منهما مصطلح شبكة. الشبكة الأولى، عادة ما تُترجم "جمع أو بناء الاستحقاقات"، ولكن الأمر ليس كما لو إننا في مباراة لجمع النقاط. المقصود بالاستحقاقات هو القوى الإيجابية، لذا فالشبكة الأولى هي شبكة القوى الإيجابية التي يتم بناءها عبر القيام بالأفعال الإيجابية البناءة. بينما يُطلق على الشبكة الثانية مصطلح شبكة الوعي العميق، ويُطلق عليها أحيانًا شبكة الحكمة، لكنه مصطلح مختلف عن الوعي التمييزي كما تحدثنا سابقًا. لذا فمساعدة الآخرين، على سبيل المثال، دون أي تكريس سيُحسن بالطبع من وجودنا بالسامسارا، لكن إذا لم نقم بتكريس فعل المساعدة هذا لتحقيق التحرر أو الاستنارة، فلن يساهم هذا الفعل في الوصول لأي من هذه الأهداف.

تقسيم الباراميتات بناء على علاقتهم بالشبكتَين

في العرض العام للماهايانا نُقَسَّم المواقف الداخلية التي ستأخذنا بعيدًا على هاتين الشبكتين – وهذه إحدى طرق تقسيمهم. هناك طريقة أخرى لتقسيمهم وفقًا للبراسانغيكا، والتي هي فرع خاص من الماهايانا. في البداية، علينا أولًا أن نفهم الغرض من الشبكتَين كي نتمكن من فهم طريقة تقسيم البراميتات؟ ما الذي تقومان به؟ كما شرحت في وقت سابق هذا الأسبوع، مع الاستنارة يكون لدينا ما يمكن أن نُطلق عليه أجساد بوذا، هي ليست أجسادًا مثل أجسادنا، ولكن بإمكاننا تقسيمهم بالعديد من الطرق. تلك الأجساد في الحقيقة شبكة من أشياء عديدة، لدينا الدارماكايا (جسد الشمول لكل شيء)، وهو كامل شبكة ذهن بوذا كليّ المعرفة وخلو هذا الذهن، ثم هناك شبكة هيئات الاستنارة (الروباكاكايات، أجساد الهيئات)، والتي بها الهيئة الأكثر خفوتًا (سامبوكاكايا، جسد الاستخدام الكامل)، والهيئة الأكثر ظهورًا (نيرماناكايا، جسد التجسد). وهناك العديد والعديد من الهيئات الأخرى لبوذا – الملايين من الهيئات – والتي يمكن أن تظهر سويًا، ولهذا السبب يُطلق عليهم شبكة؛ لذا فتلك الهيئات ليست مجرد جسدًا واحدًا. فبوذا مثلًا يعرف كل شيء في ذات الوقت، لذا فهو ليس شيئًا واحدًا، إنما شبكة متكاملة.

في البوذية نتحدث عن أنواع كثيرة جدًا جدًا من الأسباب – ستة أنواع مختلفة من الأسباب – وأنواع مختلفة من الشروط. لكن هناك نوع من الأسباب يُطلق عليه "أسباب التحقُّق": إذا استخدمنا مثالًا على ذلك، فسيكون مثل العجين عند صناعة الخُبز. إنه المادة التي ستتحول إلى الخُبز، وعندما يُصنع الخُبز لن يكون هناك عجين. العجين، بهذا المعنى، يتحول إلى الخبز عند طهيه. هذا ما نُطلق عليه "أسباب التحقُّق".

لذا فهاتان الشبكتان، شبكتَي بناء الاستنارة هما العجين الذي سيتحول مثل الخُبز: شبكة القوى الإيجابية هي العجين الذي سيتحول إلى شبكة هيئات الاستنارة التي تعمل على مساعدة الآخرين. وشبكة الوعي العميق هي العجين الذي سيتحول إلى شبكة الدارماكايا، أي ذهن بوذا كلي المعرفة. لكن نحتاج كليهما لتحقيق ذلك. يجب أن يدعما بعضهما البعض. لا يمكنك تحقيق احدهما دون الآخر. الاثنين يجب أن يعملا سويًا.

إذًا، للوصول إلى شبكات استنارة بوذا، إحدى شبكتَي بناء الاستنارة ستصبح مثل العجين والأخرى ستصبح مثل حرارة الفرن. العجين لن يتحول إلى خبز دون حرارة الفرن. ولذا، بهذه الطريقة، يدعمان بعضهما البعض. نحتاج كلًا منهما من أجل تحقيق أي هيئة من هيئات بوذا – أجساد بوذا، أو شبكات الاستنارة.

كما ذكرت، هناك طريقتان لتقسيم المواقف الداخلية الستة التي ستحملنا بعيدًا في علاقتهم بشبكتي بِناء الاستنارة. وفقًا للعرض العام للماهايانا، شبكات المواقف الداخلية التي ستحملنا بعيدًا – والتي سيكون علينا أن نستعرضهم بشكل منفصل حتى نفهمهم بشكل صحيح، لكنني الآن سأُوضِّح أي من المواقف الداخلية الستة يساهم في أي من شبكتي بناء الاستنارة.

بِناءً على هذا العرض، يساهم في شبكة القوى الإيجابية لبناء الاستنارة: أولًا الكرم، ثم الالتزام الأخلاقي. بالنسبة للصبر فله ثلاثة أشكال: اثنَين منهما يساهمان في شبكة القوى الإيجابية، وهما – الصبر على ألا نغضب نتيجة للصعوبات التي نواجهها في عملنا مع الآخرين، والصبر على ألا نغضب نتيجة للمشاكل التي نواجهها عند عملنا على أنفسنا.

الآن، أي من المواقف الداخلية التي ستحملنا بعيدًا يساهم في شبكة الوعي العميق؟ الموقفان اللذان سيحملانا بعيدًا الخاصان بالوعي التمييزي والثبات الذهني، بالإضافة إلى الشكل الثالث للصبر، الصبر على ألا نُحبَّط نتيجة لصعوبات التدرب على الدارما.

الموقف الداخلي الذي سيحملنا بعيدًا الخاص بالحماسة الإيجابية، أو المثابرة بسعادة، يساهم ويقوي كلٍ من الشبكتين.

تتحدث الكالاتشاكرا عن ثلاث شبكات، ثلاث شبكات لبناء الاستنارة. الشبكة الثالثة في هذا العرض هي شبكة الالتزام الأخلاقي. في هذا التقسيم يتم فصل الموقف الداخلي الخاص بالالتزام الذاتي الأخلاقي – والذي يساهم في شبكة القوى الإيجابية بالعرض العام للماهايانا – ليُشكل وحده شبكة مستقلة، وهي شبكة الالتزام الأخلاقي.

شرح أعمق لتخصيص البراميتات للشبكتَين

فيما يتعلق بالتصنيف العام للمواقف الداخلية التي ستحملنا بعيدًا في الشبكتَين أو الثلاث شبكات… ليس من المفيد التفكير فقط في "حسنًا، إن هذا مجرد تصنيف نظري عديم المعنى"، وإنما بإمكاننا رؤية الأمر بهذه الطريقة "حسنًا، ما الذي سيتحول إلى هذا الكائن المستنير ذو الهيئات المتعددة التي ستتيح لي حينها مساعدة الآخرين؟" أن نكون كُرماء، وتحديدًا، في مساعدة الآخرين. نحتاج إلى الالتزام بمساعدة الآخرين وعدم إيذائهم. نحتاج لأن نكون صبورين مع الآخرين، بحيث لا نُحبط عند مساعدتنا لهم، لأن هذا لن يكون سهلًا دائمًا، وأن نكون صبورين على مشاكلنا الشخصية وعيوبنا بينما نسعى لمساعدة الآخرين – بالطبع، نعمل عليهم بأنفسنا، وألا نيأس. عندها، تلك المواقف الداخلية مجتمعة هي ما ستتحول لبوذا ذو الهيئات المتعددة والقدرات الخاصة التي ستجعلنا مؤهلين حينها لمساعدة الآخرين في أفضل شكل.

ما الذي سيتحول ويُصبح ذهن بوذا؟ حسنًا، نحتاج بالتأكيد لأن يكون لدينا وعيًا تمييزيًا. نحتاج لأن يكون لدينا ثباتًا ذهنيًا، هذا لا يعني فقط التركيز، وإنما ألا يكون لدينا صعود وهبوط في أمزجتنا ومشاعرنا المزعجة، وما إلى ذلك. نحتاج لأن يكون لدينا صبر وألا نُحبط من صعوبات التدرُّب على الدارما، تحديدًا فيما له علاقة بالتأمل ومحاولة الحصول على ما يُسمى بالحكمة. هذا هو ما سيقوم بتحويل أذهاننا إلى ذهن بوذا.

نحتاج كذلك للمثابرة في كلا الحالتَين. إذا تحدثنا بشكل عام: نحتاج لأن نلتزم بها، ألا نيأس، وأن نستمتع فعليًا بكلٍ مِن مساعدة الآخرين والقيام بالتأمل. فالمثابرة تساهم في بناء كلا الشبكتين: مساعدة الآخرين، وهي تبني القوى الإيجابية – إذا تحدثنا بشكل أكثر عمومية – وبناء الوعي العميق يكون من خلال التأمل. من الواضح، أننا نساعد الآخرين ونتأمل، وعن طريقهما نحن نبني القوى الإيجابية والوعي العميق. أنا أوضح لكم الأمر هنا بقدر كبير من التعميم ليسهل عليكم فهمه.

بغض النظر عمَّا نقوم به، نحتاج إلى الالتزام به، وعدم اليأس. هذه هي المثابرة. وأن نستمتع بالقيام به، وألا يكون لسان حالنا "أف، هذا مُريع، أكره ما أقوم به، لكنني سأستمر في القيام به، لأنني أشعر أنه واجب عليّ أو لأنني سأشعر بالذنب إذا لم أقم به". استمتعوا بما تقومون به، "أنا أحب التأمل، أحب مساعدة الآخرين، هذا يُعطيني متعة كبيرة"، "أنا أحب الترجمة. إنها تُعطيني متعة عظيمة. لا شيء يُمتعني هكذا غيرها".

كتب شانتيديفا بالبيت الرابع والستين من الفصل السابع من الانخراط بسلوك البوديساتفا:

على الرغم من قيام الأشخاص بأفعال من أجل الوصول إلى السعادة، إلا إنه ليس من الواضح إنهم بالفعل سيصبحون سُعداء نتيجة لتلك الأفعال أم لا؛ إنما (البوديساتفا) الذين أفعالهم تجلب السعادة بالفعل، كيف لهم ألا يقوموا بتلك الأفعال؟

بعبارة أخرى، إذا كنت تستمتع بعملك، عندها ستكون تعيسًا إذا لم تقم به. ونحن لا نتحدث هنا في أن تكون مدمنًا على العمل في المكتب، وإنما نتحدث عن مساعدة الآخرين. ما لم نقم فعليًا بشيء نافع للآخرين، لا نشعر…. أننا سُعداء . "دائمًا أرغب في القيام بشيء ما لمساعدة الآخرين. هذا ما يُعطي أعظم متعة في الحياة"، هذا ما نتحدث عنه عند حديثنا عن المثابرة بسعادة. لذا فلا يهم ما الذي نقوم به لمساعدة الآخرين – الاعتناء بأطفالنا، العمل في مجال موجه لمساعدة الآخرين بطريقة أو بأخرى، تعليم الدارما. لا يهُم. نحن نقوم بما نستطيع القيام به.

طريقة أخرى لتقسيم البراميتات الستة على الشبكتَين موجودة في نظام البراسانغيكا وِفقًا لعرض تقليد الغيلوك، كما صاغها تسونغكابا. في التقاليد التبتية الأولى – النييغما، الساكيا والكاغيو – حيث لديهم فهمًا مختلفًا لموقف البراسانغيكا. فرَّق تسونغكابا بين الستة براميتات وفقَا للحقيقتَين. الوعي التمييزي الخاص بالحقيقة الأعمق والذي سيحملنا بعيدًا، والخلو، يساهمان في بِناء شبكة القوى الإيجابية، في هيئة أجساد بوذا. وهذه طريقة أخرى للتصنيف وفقًا للحقيقتَين.

Top