الحقائق الأربع النبيلة: نظرة عامة

16:25
الجميع يختبرون المشكلات والتعاسة خلال حياتهم؛ وعلى مر التاريخ تم تقديم أدوات مختلفة لمقاومة المعاناة. في العالم المعاصر الآن، يتيح الإنترنت إمكانية فورية للحصول على معلومات عن عدد هائل من الفلسفات ونحن هنا ننظر إلى المدخل الفريد الذي أخذه بوذا، منذ أكثر من ٢٥٠٠ عاما مضت، فيما يخص سبب معاناتنا وكيفية العثور على السلام والسعادة بحياتنا.

مقدمة

عندما ننظر البوذية لأول مرة، فمن الأفضل أن نبدأ بتفحص الحقائق الأربع النبيلة. هذا أمر ملائم حيث إنها الطريقة التي بدأ بها بوذا تقديم تعاليمه. خلال زمن بوذا كان هناك بالفعل العديد من الأديان والأنظمة الفلسفية، ولدينا الآن مجموعة أوسع من التعاليم الروحانية. لذا عندما نتجه إلى البوذية، أعتقد إنه من الهام جدًا أن نحاول تحديد ما هو المتميز والخاص فقط بالمدخل البوذي. البوذية بالطبع تتضمن العديد من التعاليم المشتركة مع أديان أخرى: أن نكون أشخاص طيبين، ومُحبين، ونحاول ألا نؤذي أحدًا وما إلى ذلك. مثل تلك التعاليم نجدها تقريباً في جميع الديانات، والفلسفات، ولسنا بحاجة لأن نتحول للبوذية لنتعلم مثل تلك التعاليم. على الرغم من أن البوذية غنية جدًا بالعديد من الأدوات التي تُمكّننا من تنمية الطيبة والحب والشفقة، إلا أننا نستطيع الانتفاع من تلك الأدوات سواء قبلنا أي شيء آخر في البوذية أم لم نقبل.

لكن، إذا تسائلنا، "ما هي التعاليم القاصرة على البوذية؟" فعندها نحن بحاجة لأن نتحدث عن الحقائق الأربع النبيلة. حتى عند خلال مناقشة الحقائق الأربع النبيلة سنجد العديد من النقاط المشتركة مع النظم الأخرى.

لدينا هذا التعبير "الحقيقة النبيلة"، لكنها ترجمة غريبة إلى حد ما. كلمة "نبيل" قد تجلب للذهن أرستقراطية العصور الوسطى، لكنها في الحقيقة تُشير إلى هؤلاء من هم ساميي الإدراك. أما الحقائق الأربع النبيلة هي بالتالي أربع حقائق تُرى صحيحة من قِبَلْ أولئك لرؤية غير نظرية للواقع. على الرغم من إن هناك أربع حقائق صحيحة، إلا أن معظم الناس لا يفهمونهم، بل إنهم حتى غير مدركين لهم.

الحقيقة النبيلة الأولى

الحقيقة الفعلية الأولى عادة ما تُدعى "المعاناة". قال بوذا أن حياتنا مليئة بالمعاناة وحتى ما قد نعتبره السعادة العادية يصاحبها أيضًا الكثير من المشاكل. الكلمة التي تُترجم بـ "المعاناة" في اللغة السنسكريتية هي كلمة "دوكها". لدينا "سوكها" والتي تعني السعادة و"دوكها" تعني التعاسة. في المصطلحات اللغوية "كها" تعني الفضاء و"دوها" هي البادئة وتعني غير مُرضية، غير سارة. لا يجب علينا أن أستخدم كلمة تحوي الحكم مثل "سيئ"، لكن المعنى يدور في هذا الاتجاه. لذا "دوكها" تعني أن هناك شيء خطأ بهذا الفضاء، والفضاء هنا يشير إلى فضائنا الذهني، وفضاء حياتنا بشكل عام. إنه موقف غير سار بالمرة.

إذا، ما هو الشيء غير السار بشأنه؟ حسناً، في بادئ الأمر، نحن نختبر المعاناة الأكثر ظهوراً مثل: الألم، التعاسة، الحزن. وهذا شيء نستطيع جميعًا فهمه ويرغب الجميع في تجنبه، حتى الحيوانات. لذا لا شيء مُميز بشأن قول البوذية أن الألم والتعاسة هي مواقف غير مُرضية، ومن الأفضل التخلص منها. النوع الثاني من المعاناة يٌدعى معاناة التغيير والتي تتحدث عن السعادة اليومية المُعتادة. إذا، ما هي المشكلة في ذلك النوع من السعادة؟ المشكلة في أنها لا تدوم. إنها تتغير طوال الوقت. إذا كان ما نعتبره سعادة عادية هي سعادة حقيقية لكان كلما حصلنا على كم أكثر منها كُنا شعُرنا بسعادة أكثر. إذا كنا نشعر بالسعادة من تناول الشيكولاته إذًا فكلما تناولنا المزيد لساعات دون توقف لكان من المفترض أن يجعلنا هذا أكثر سعادة؛ نحن نعرف بالتأكيد أن الوضع ليس هكذا؛ الشعور بالمتعة سيتحول سريعًا للألم، أو عدم الراحة. وبالطبع نحن لا نكتفي أبدًا من هذه السعادة العادية، ولا نحصل أبدًا على الكفاية منها، ولا نشعر أبدًا بالرضا. دائمًا نريد المزيد من الشيكولاته، ربما ليس في الحال، لكن بعد قليل من الوقت.

من المثير للاهتمام التفكير في "كم من طعامك المفضل يجب عليك أن تأكل لتستمع به؟" قطمة واحدة ساكون كافية، لكننا في الحقيقة نريد المزيد والمزيد والمزيد. الآن، نريد أن نتغلب على هذا النوع من المشاكل من سعادتنا العادية، السعادة الدنيوية أمر أيضاً ليس قاصرًا على الهدف البوذي. هناك الكثير من الأديان التي تُعلِمنا تجاوز الملذات الدنيوية؛ وإيجاد جنة النعيم الأبدية.

التعاليم الخاصة بالنوع الثالث من المعاناة قاصرة فقط على البوذية. هذا النوع من المعاناة يُدعى "المعاناة التي تتخلل كل شيء" أو "المشكلة التي تجتاح كل شيء". إنها المعاناة التي تتخلل كل شيء نختبره؛ وهذا يشير إلى الطريقة التي تتم إعادة ميلادنا بها بشكل متكرر غير متحكم به، والتي هي أساس كل صعود وهبوط في حياتنا اليومية. بعبارة أخرى، الميلاد مرة بعد مرة بتلك بنوعية الأذهان والأجساد، الذان هما الأساس لنوعي المعاناة السابقين. وهذا بالطبع يأتي بنا لموضوع إعادة الميلاد، والذي من الممكن التحدث عنه لاحقًا.

بالطبع هناك الكثير من الأنظمة الفلسفية الهندية التي تُعلِم بشأن إعادة الميلاد، إذًا ليس هناك شيئًا جديدًا علمه بوذا. لكنه فهِمَ ووصف إعادة الميلاد ووصف آلياتها بطريقة أكثر عمقاً من أي من الفلسفات أو الديانات التي قامت بشرحها في زمنه. وقد أعطى بوذا تفسيرًا كاملًا لكيفية حدوث إعادة الميلاد، وكيف تختبر أذهاننا وأجسادنا هذا الصعود والهبوط للألم وسعادتنا العادية.

الحقيقة النبيلة الثانية

الحقيقة الثانية تبحث في السبب الحقيقي لجميع تعاستنا التي نختبرها.  نحن لسنا بحاجة للتطرق لموضوع إعادة الميلاد عند هذه النقطة، وبدلًا من ذلك نحاول أن نفهم ما كان يشرحه بوذا بطريقة منطقية بسيطة. نحن نتحدث عن المعاناة والسعادة العادية والتي تحدث لأسباب، لكن وبوذا كان مهتمًا بـ "الأسباب الحقيقية". قد نعتقد أن السعادة والتعاسة يحدثون لنا كمكافئة أو عقاب أو على أي شكل آخر مُماثِل، لكن بوذا تحدث عن الأسباب الحقيقية كالسلوكيات الهدامة والبناءة.

 ما المقصود بالسلوك الهدام؟ هل هو فقط التسبُب بالأذى؟ عندما نتحدث عن التسبُب بالأذى، قد يكون التسبُب بالأذى للآخرين، أو التسبُب بالأذى لأنفسنا. في الحقيقة من الصعب أن نعرف ماهية تأثير سلوكنا إذا كان سيُضر الآخرين أم سيساعدهم. على سبيل المثال، قد نُعطي شخصًا ما كمًا كبيرًا من المال وكنتيجة لذلك فإنه يُقتَل من شخص آخر لسرقته. نحن نريد أن نساعدهم، هذا هو هدفنا، ولكن ليس هناك أي ضمانة. ما هو مؤكد أن هناك أنواع من السلوكيات مؤذية لنا.

وما يُشار له هنا هو الفعل أو الحديث أو التفكير تحت تأثير المشاعر المزعجة. المشاعر المزعجة، ببساطة تُزعج! لأنها تُسبب لنا فقدان راحة البال وفقدان التحكم في الذات. وهذا يشير إلى الغضب، الجشع، التعلق، الغيرة، الغرور، الغُفل والتردد، هناك قائمة طويلة من تلك المشاعر. عندما يكون تفكيرنا مُحاصر تمامًا بتلك المشاعر ونتحدث أو نتصرف تحت تأثيرها، فسينتُج عن هذا تعاسة لأنفسنا. ربما ليس في الحال، لكن على المدى البعيد، لأن هذا يبني الميل للاستمرار بنفس تلك الطريقة.

على الجانب الآخر، لدينا السلوك البناء، الذي لا يكون تحت تأثير هذه المشاعر المزعجة لكنه قد يكون مدفوعًا بمشاعر إيجابية مثل الحب، الشفقة، أو الصبر.

التصرف بشكل بناء يُنتج السعادة. ذهننا يُصبح أكثر راحة، وبشكل عام نكون أكثر هدوءًا. عادة ما نُصبح أكثر قدرة على التحكُم في أنفسنا، لذا لا نقوم بأشياء غبية أو نتصرف بطريقة غبية التي قد تتسبب في المشاكل. مرة أخرى، التأثير قد لا يكون في الحال، لكن على المدى الطويل يُنتج السعادة. مع ذلك، ما يحجب عنا تلك السعادة في الأساس الغُفل بكيفية وجودنا، وكيفية وجود الآخرين، الغفل عن الواقع في العموم.

إن سعادتنا وتعاستنا العادية ليسوا مكافأة أو عقابًا من حاكم ما. إنهم يتبعون في ذلك تقريباً ما أشبه بقوانين الفيزياء. ما هو الأساس الذي ترتكز عليه قوانين الأسباب والنتائج السلوكية؟ الأساس لذلك هو ارتباكنا، خاصة بشأن بأنفسنا. قد نفكر، "أنا الشخص الأكثر أهمية؛ يجب دائما أن أحصل على ما أريده وأن أسبق الآخرين في طابور المتجر؛ يجب أن أكون الأول". نحن لدينا جشع تجاه أن نكون في المقدمة، ونغضب من هؤلاء الذين يقفون أمامنا. نُصبح غير صبورين لأن الشخص الذي أمامنا بطئ للغاية ويأخذ وقتًا طويلًا، وأذهاننا مليئة بكل أنواع الأفكار غير السعيدة عن هذا الشخص. حتى إذا تصرفنا بطريقة بنائه، هناك الكثير من الارتباك بشأن "أنا" يسري تحت كل ذلك. على سبيل المثال، فنحن قد نُساعد الآخرين لأننا نريدهم أن يُعجبوا بنا أو نريدهم أن يقوموا بشيء لنا في المقابل، أو نساعدهم لأن هذا يشعرنا بأن أحدًا ما في حاجة لنا. على اقل تقدير فنحن نرغب في أن يشكرونا.

على الرغم من أن مساعدة الآخرين تجعلنا نشعر بالسعادة، إلا أنه هناك شيء غير مريح أسفل ذلك. هذه السعادة التي قد نختبرها لا تدوم أبدًا. هذا النوع يتغير إلى شيء غير مُرضٍ. وهذا يستمر ويستمر خلال حياتنا من وجهة النظر البوذية، وخلال حيواتنا المستقبلية كذلك.

إذا نظرنا عن قرب أكثر، نجد لدينا ارتباك بشأن كل شيء. على سبيل المثال، عندما تحب شخص ما حبًا شديدًا، نحن نُغالي بشدة في صفاته الجيدة. أو عندما نكره شخص ما جدًا، فنُغالي بشدة في صفاته السلبية. ولا نستطيع رؤية أي شيء جيد فيه. وكلما تفحصنا أكثر سنجد المزيد من الارتباك الكامن في جميع خبراتنا طوال الوقت.

إذا تفحصنا أعمق من ذلك، سنستطيع رؤية أن أساس ذلك وهو محدوديتنا. بذلك الذهن والجسد الذي لدينا، هناك محدودية. عندما نغلق أعيننا، يبدوا الأمر كما لو أن بقية العالم غير موجود، هناك "أنا" فقط. وهناك هذا الصوت داخل رؤوسنا والذي يبدوا كما لو أنه "أنا"،  كما لو أن هناك "أنا" بداخلي. هذا شيء غريب جدًا. رغم ذلك نحن نُعرِّف أنفسنا بواسطة بتلك "الأنا" لأنها هي التي تشتكي دائمًا، "يجب أن أكون في المقدمة؛ يجب أن أقوم بذلك. " إنها من يقلق دائماً. بشكل ما يبدوا كما لو أن هذا الصوت داخل رؤوسنا مُميّز وموجود بشكل منفصل عن كل شخص آخر، لأننا عندما نُغلق أعيننا، لا يوجد شيء غير هذه الـ "أنا".

طريقة تفكير هذه محيرة جدًا لإنه على نحو جليّ نحن لا نوجد مستقلين عن كل شخص آخر؛ وفي الحقيقة لا يوجد شيء مُميز بشأن أي شخص. نحن جميعًا بشر. تخيلوا مئات الآلاف من طيور البطريق بالقطب الجنوبي جميعهم بشكل ما مُصطفون هناك على الجليد. ما الذي يجعل أحدهم مُميزًا عن الآخر؟ في الحقيقة، جميعهم متشابهون. كذلك نحن. للبطاريق، في الأغلب جميع البشر يبدون متماثلين. لذا، بناء على طريقة التفكير هذه يشعر الشخص بأنه "مُميّز جدًا ومستقل عن كل شخص آخر"، ولذا يجب أن يحصل على يريده، ويغضب إذا لم يحصل عليه.

‏بشكل رئيسي، الأساس المادي المُكوِن لأذهاننا ولأجسادنا يؤدي لأن يكون لدينا مثل هذا الارتباك. هذا قد يبدو غريبًا، لكننا نختبر العالم بشكل أساسي من خلال هذين الثقبين في مُقدمة رؤوسنا. لا استطيع أن أرى ما هو خلفي, فقط أرى ما هو كائن أمامي الآن؛ لا أستطيع أن أرى ما حدث من قبل، أو ما سيأتي لاحقًا؛ محدودين للغاية، ومن ثَمَّ نتقدم في العمر، ولا نسمع بشكل جيد. شخص ما يقول شيئًا ما ولا نسمعه بشكل صحيح،  نفكر أنهم قالوا شيئًا آخر وحينها نشعر بالغضب من ذلك. عندما نفكر في ذلك نجد أنه شيء مثير للرثاء.

المشكلة الخاصة بنا والتي تسود كل شيء هي إننا يعاد ميلادنا مرة بعد الآخرى بشكل مستمر بهذا النوع من الجسد والذهن، والذان يُكرسان دائمًا لهذا الارتباك. على أساس من هذا الارتباك نقوم بالتصرف بشكل هدام، أو بطرقنا البناءة المعتادة، وهذا ما يُنتج التعاسة والسعادة المُعتادة التي نختبرها.

إذا تفحصنا بشكل أكثر عمقًا، سيُصبح الأمر أكثر تعقيدًا ولا حاجة بنا للخوض بذلك الآن، لكنه الارتباك ذاته هو الذي يدفع عملية إعادة الميلاد المتكرر غير المتحكم بها تلك. هذا هو السبب الحقيقي لمشاكلنا الحقيقية. هذا الارتباك، أو عدم الوعي، عادة ما يُترجَم إلى"الجهل". أنا أُفضل عدم استخدم تلك الكلمة، لأنها تفترض أننا أغبياء؛ لكن هذه ليست المشكلة على الإطلاق، وليست الدلالة التي نرغب بها. عدم الوعي يعني فقط أننا لا نعرف كيفية وجودنا ولا كيفية وجود الظواهر. نحن غير واعيين وفقًا لهذا المعنى. مثل التفكير بأنني أنا الأكثر أهمية وأنا مركز هذا الكون – بينما هذا عكس الواقع تمامًا. الواقع أننا جميعاً هنا سويًا. الأمر ليس أننا أغبياء، ولكن لأن أجسادنا وأذهاننا تجعلنا نشعر بتلك الطريقة.

وهذا هو السبب في أننا نقول أنهم "الحقائق النبيلة". لأن هؤلاء الذين يرون الواقع حقًا يرونه بطريقة مختلفة تمامًا عن رؤية أي شخص آخر له. نحن جميعًا نعتقد فعليًا أن أرتباكنا وإسقاطاتنا يتطابقون مع الواقع. نحن مُقتنعون بأن هذا حقيقي. نحن حتى لا نفكر في هذا الأمر على الإطلاق، لأن غريزتنا هي "أنا الأكثر أهمية. يجب أن أحصل على ما أريد. يجب على الجميع أن يحبوني"، أو البعض يصدقون العكس، "الجميع يجب أن يكرهونني، لأني لست جيدًا".  إنهما متماثلان، فقط الوجه الآخر للعملة. هذا هو السبب الحقيقي.

الحقيقة النبيلة الثالثة

الحقيقة النبيلة الثالثة هي ما نسميه "الإيقاف الحقيقي". عادة تُترجم إلى "الانقطاع الحقيقي" وهذا يُشير إلى حقيقة أنه من الممكن إيقاف الارتباك والتخلص منه، بحيث لا يظهر مرة أخرى أبدًا. إذا تخلصنا من الارتباك، الذي هو السبب الحقيقي؛ عندها سنتخلص من المشكلات الحقيقية، والتي هي الأساس لهذا الصعود والهبوط وسبب إعادة الميلاد المتكرر غير المتحكم فيها. إذا قمنا بذلك؛ سنحظى بما يطلق عليه "التحرر". أنا متأكد أنكم جميعًا تعرفون الكلمة السنسكريتية "سامسارا" وهي إعادة الميلاد غير المتحكم فيها، و "نرفانا" التحرر.

هناك أنظمة هندية أخرى بزمن بوذا تحدثت عن التحرر من السامسارا كذلك. فقد كان هذا الموضوع شائعًا في الهند. لكن، بوذا رأى أن تلك الأنظمة لم تذهب للعمق الكافي في تعريف السبب الحقيقي. أنت قد تحصل على بعض الراحة من التكرار غير المتحكم به للمشاكل. على سبيل المثال، أنت قد تولد في أحد العوالم العليا لدهور، حيث تكون أذهاننا جوفاء، ومع ذلك فإن هذا سينتهي. لذا لا يوجد تحرر حقيقي مع تلك الأنظمة الأخرى.

قام بوذا بالتعليم عن الإيقاف الحقيقي. من الهام جدًا أن نفهم وأن يكون لدينا الثقة أنه من الممكن حقًا أن نتخلص من الارتباك بحيث لا يعود مرة أخرى. وإلا لماذا نحاول التخلص منه؟ إذا لم نكن مهتمين بإيقاف الارتباك للأبد، ربما علينا كذلك أن نصمت، ونتقبل المواقف الصعبة ونحاول أن نصنع أفضل ما يُمكننا بها. الكثير من المعالجين النفسيين قد يكون هذا بالنسبة لهم الهدف النهائي! "تعلم أن تعيش بها؛ أو خذ حبة دواء."

الحقيقة النبيلة الرابعة

الحقيقة النبيلة الرابعة عادة ما تُترجم إلى " المسار الحقيقي"، والتي تساعدنا على فهم الحقيقة الثالثة. هذا يُشير إلى حالة ذهنية والتي إذا نميناها ستصبح مسارًا يقودنا للتحرر. يمكننا أيضًا تسميتها "المسار الذهني"، لكن هذا مصطلح يصعُب ترجمته إلى معظم اللغات الأخرى.

ما تقوم أذهاننا بإسقاطه ما هو إلا هراء صِرف. لكن هناك أيضًا مستويات من الإسقاطات لهذا الهراء. الإسقاط الأكثر تطرُفاً قد يكون الشك المرضي أو الفُصام، عندما نظُن أن الجميع ضدنا.  قد يكون أقل تطرفًا كـ "هذه هي أفضل قطعة من كعكة الشيكولاته رأيتها على الإطلاق، إذا أكلتها ستجعلني حقًا سعيدًا".  لقت اختبرت هذا في الطائرة وأنا ذاهب لبوخارست. فقد توقفت في فيينا؛ "حسنًا، فطيرة التفاح في فيينا ينبغي أن تكون الأفضل في العالم" فطلبت قطعة منها. ولم تكن الأفضل في العالم. لذا، فإسقاطي لما يجب أن تكون كان مجرد هراء. فطيرة التفاح موجودة بالفعل - فالفطيرة لم تكن إسقاطًا من ذهني، لكن الطريقة التي تتواجد عليها كأفضل فطيرة تفاح في العالم وأنني سأكون سعيدًا جدًا بتناولها كان إسقاطًا من ذهني.

بشكل مشابه، أنا موجود وأنت موجود. البوذية لا تقول أننا غير موجودين. إنها ببساطة تُشير إلى أننا نُسقط على الواقع طريقة وجود لا تتفق على الإطلاق مع ما هو واقع بالفعل. لدينا فعليًا فكرة أن الأشياء موجودة بشكل مستقل عن أي شيء آخر، والتي هي طريقة مستحيلة للوجود. الأشياء تنشأ نتيجة لأسباب وشروط، وتتغير طوال الوقت. لكننا لا نرى ذلك؛ نحن نرى فقط ما هو أمام أعيننا. على سبيل المثال، كان يفترض بنا أن نقابل شخص ما، ولم يأتِ. يبدوا الأمر لنا وكأن هذا الشخص سيئ للغاية، دائمًا ما يخذلنا، لم يعُد يُحبنا بعد الآن. نحن نعتقد أن حياة هذا الشخص مستقلة عن أزمة المرور، أو المزيد من العمل بالمكتب، أو من يدري ماذا حدث. لكن بما أن كل شيء يحدث لأسباب وشروط؛ لذا من المستحيل أنه من جانب هذا الشخص، وبشكل مستقل عن كل شيء آخر، أن يكون سيء. لكن لا يزال ذهننا يقوم بإسقاط تلك الفكرة، ويتشبث بها، ومن ثَم يخلق الغضب، والمشاعر المُدمرة. وعند رؤيتنا له في المرة المُقبلة، نراه بشكل مختلف، ونصيح عليه، ولا نعطيه حتى فرصة ليشرح لنا ما حدث. خلال كل هذا، نحن من نكون فعليًا بائسين تمامًا وتعساء، أليس كذلك؟

بالتالي، نحن موجودون، لكن الطريقة التي نعتقد أننا موجودين بها – كأشخاص مُميَزين ومستقلين عن كل شخص آخر – هذا بالكامل إسقاط. إنه هراء. إنها لا تُشير إلى أي شيء حقيقي. هذا ما نُطلق عليه "الخلو" في البوذية، وغالبًا ما يُترجم إلى "الخواء". المصطلح السنسكريتي له هي كلمة مماثلة للصفر، إنها تعني "لاشيء"، أي الغياب التام لأي شيء حقيقي. مثلما نقوم بالإسقاط على شريكتنا أو شريكنا الجدد إنه أمير أو إنها أميرة على حصان أبيض كما القصص الخيالية. هذا مستحيل. لا أحد موجود بهذه الطريقة، لكننا نبحث دائمًا عنه. وعندما لا يرتقي هذا الشخص لمستوى إسقاطنا؛ نشعر بخيبة الأمل ثم نبدأ في البحث عن شخص آخر، حتى وإن كنَّا نبحث عن شيء امتلاكه مستحيل.

إذًا، فالمسار الحقيقي للذهن، هو فهم أن كل هذا عبارة عن هراء، أن إسقاطاتنا لا تتوافق مع أي شيء حقيقي. الآن إذا تفحصنا السبب الحقيقي، فإن السبب الحقيقي للمعاناة هو أننا نصدق بأن هذا يتوافق مع شيء حقيقي. المسار الحقيقي هو أن نفهم بعمق أن هذا لا يتوافق مع أي شيء حقيقي. إسقاطاتنا للخيالات والواقع ينفي أحدهما الآخر. سأكرر هذا. الارتباك هو أن نفكر بأن هذا يتوافق مع شيء حقيقي. الفهم الصحيح أن نفهم أنه ليس هناك شيء كهذا. ببساطة، إما أن هناك شيء يتوافق أو لا يتوافق. إنها إما نعم أو لا؛ لا يمكننا أن نعتقد أن كلاهما صحيح.

دعونا نحلل الأمر. أيهما الأقوى بالنسبة لنا، "نعم" أم "لا"؟ إذا تفحصنا الأمر منطقيًا، عندها من الواضح إنها "لا"؛ لأن "نعم" لا تستطيع الصمود في مواجهة المنطق. هل يتوقف كل شخص عن الوجود إذا أغلقت عيني؟ بالطبع لا. هل صحيح أني يجب دائمًا أن أحصل على ما أرغب فيه، لأنني أهم شخص في العالم؟ لا، هذا سخيف. كلما تفحصنا أكثر، كلما بدأنا بالتشكيك في "أنا" التي تتحدث داخل رؤوسنا. إذا بدأنا في تحليل المُخ، أين هي تلك الأنا التي تَتَحَدَّث داخل رؤوسنا وتتخذ القرارات بالمخ؟ ما الذي يحدث بالضبط؟ بناء على التحليلات، ليس هناك شيء قابل للإيجاد ويُدعى "أنا". بالطبع، أنا أفعل، أنا أقوم بأشياء، أنا أتحدَّث، نحن لا ننكر ذلك، لكن ما ننكره هو وجود "أنا" صلبة والتي يجب أن تحصل على ما تريد، لأنه لا يوجد شيء مثل ذلك مدعوم من المنطق. من خلال الأسباب والتحري، نستطيع أن نرى أنه لا يوجد شيء يوجد بهذا الشكل، وأيضًا أن ارتباكنا يتوافق مع شيء حقيقي غير مدعوم من أي شيء كذلك.

ما نتيجة التفكير بأننا موجودين بهذه الطريقة المستحيلة؟ سنجعل أنفسنا بؤساء! ما نتيجة التفكير بالطريقة أخرى، إنه لا شيء موجود هكذا ؟ نحن نحرر أنفسنا من كل تلك المشاكل. عندما نفكر بأنه "لا شيء مثل هذا، وأن هذا مجرد هراء"، فمن المستحيل في نفس الوقت أن اعتقد أن ذلك يتوافق مع شيء حقيقي. لذا، الفهم الصحيح يمكن أن يستبدل الفهم الخاطئ. لذا إذا استطعنا أن نحتفظ بتركيزنا على هذا الفهم الصحيح طوال الوقت، عندها هذا الارتباك لن ينشأ مرة أخرى.

هنا أيضًا، تعاليم بوذا التي تُصحح فهم الواقع ويمكنها أن تحل محل الفهم الخاطئ، وتُحقق التحرر من المعاناة وإعادة الميلاد لم تكن شيء مقتصر عليها. أنظمة هندية أخرى أكدت على ذلك أيضًا. ما هو مميز ومقتصر على البوذية هو فهم محدد يُمكنه إزالة المستوى المتناهي الصغر للارتباك حول الواقع للأبد. للحصول على التركيز الكامل من خلال التأمل، بحيث يمكننا غرس هذا الفهم الصحيح داخل أذهاننا وتحقيق الإيقاف الفعلي للارتباك؛ استفاد بوذا من الأدوات المشتركة فيما بين جميع الأنظمة الهندية، ومن خلالهم نستطيع تحقيق الإيقاف الفعلي للأسباب الحقيقية، وبالتالي إيقاف فعلي للمعاناة.

ما يُعطي أذهاننا القوة كي يظل مع الفهم الصحيح للواقع، للتغلب على جميع المشاعر الهدامة، هو الدافع. حيث يأتي الحب، الشفقة، وما إلى ذلك. لأننا نستطيع رؤية أننا لدينا تواصل تبادلي، وأن الجميع مثلنا يرغبون في السعادة؛ لذا نحن بحاجة للتخلص من ارتباكنا كي نكون قادرين على مساعدتهم بشكل كامل.

هذه هي المقدمة الأساسية للحقائق الأربع النبيلة. حتى نستطيع فهمهم بشكل أعمق، نحتاج أن نتعلم أكثر قليلًا عن الفهم البوذي للذهن والكارما.

فيديو: الدالي لاما الـ١٤ – "راحة البال من المنظور البوذي"
لتشغيل الترجمة، رجاءً أضغط على علامة "CC" أو "الترجمة والشرح" بالركن السفلي على يمين شاشة عرض الفيديو. لتغير لغة الترجمة،  يُرجى  الضغط على علامة "Settings" أو "إعدادات"، ثم أضغط على علامة "Subtitles" أو "ترجمة"، واختار لغتك المفضل

الخلاصة

بينما تتشارك البوذية في العديد مع الكثير من الأديان الأساسية والأنظمة الفلسفية، إلا أن الحقائق الأربع النبيلة – التعاليم الأولى بالبوذية- هي عرض مُميز للطريقة التي نتواجد بها، المعاناة التي نختبرها، والكيفية التي نتغلب بها على مشاكلنا.

غالبًا ما يتم تشبيه بوذا بالطبيب. سوف يؤكد الطبيب على ما أننا بالفعل مرضى، مثلما أشار بوذا إلى العديد من أشكال المعاناة التي تختبرها الكائنات بكل مكان. الطبيب سوف يبحث عن السبب وراء المرض، مثلما أشار بوذا إلى السبب الرئيسي وهو ارتباكنا بشأن الكيفية التي نوجد بها. سوف يقول الطبيب لنا بعد ذلك إذا كان بالإمكان علاجنا أم لا، ويعطينا الدواء. بنفس الطريقة، علمنا بوذا الإيقاف الحقيقي، وطريقة الوصول إليه. في النهاية فالأمر يعود لكل فرد منَّا كي يتعاطى الدواء، أو يتخذ المسار؛ إذا كنَّا نريد التغلب على معاناتنا.

Top