التخلي عن معاناة السامسارا

معاناة العوالم السامية للوجود

الشخص الروحاني حقًا، أو متدرب الدارما، هو مَن يعمل ليكون قادرًا على نفع الحيوات المستقبلية وما بعدها. عندها، مثل هذا الشخص، على مستوى أولي، سيتبع أخلاق منع نفسه من الأفعال العشرة الهدَّامة. سينخرط في الأفعال البنَّاءة من أجل تحقيق إعادة ميلاد أفضل وما شابه. مثل هذا الشخص لديه دافع النطاق الأولي. متخذًا الملجأ عبر وضع توجه آمن لحياته بهذه الطريقة، مثل هذا الشخص، في الحقيقة، سيكون قادرًا على تحقيق إعادات ميلاد كبشري أو كديفا. لكن مجرد الرضا بهذا القدر ليس كافيًا. هذا لأنه حتى إذا مِثل هذا الشخص حظي بإعادة ميلاد كإنسان أو كديفا، كلاهما يقعان في نطاق نوعية الوجود القهري، ونوعية السعادة التي تتحقق بهما دنيوية وزائلة.

في الحقيقة، تلك الحالات التي يحققانها هي مثال على المعاناة والمشاكل الحقيقية. على أساس من الميلاد كإنسان أو كديفا، يمكن أن تحقق المزيد من التقدم وتحقيق حالة السكون والثبات الذهني، ذهن الشاماتا، الهدوء الذهني. وعلى أساس من حالة السكون والثبات الذهني يمكن أن يعاد ميلاد مثل هذا المتدرب بأحد عوالم الوجود السامية، بالعوالم الأسمى. في هذه المرحلة، على سبيل المثال، إذا وُلدنا بعالم الهيئات الأثيرية (عالم الهيئة المادية)، فلن يكون لدينا أي تجسد للمشاعر أو للمواقف الداخلية المزعجة المرتبطة بعالم الرغبات الحسية (عالم الرغبة). بالمثل، إذا وُلدنا في عالم الكائنات عديمة الهيئة فلن يكون لدينا أي تجسد للمشاعر أو للمواقف الداخلية المزعجة المرتبطة بعالم الهيئات الأثيرية. كلما سمَونا أكثر وأكثر بعوالم الوجود تلك للكائنات المختلفة بعوالم الديفات، واحدًا بعد الآخر، تصبح حالتنا أكثر تميزًا. على سبيل المثال، الأرض في المكان الذي توجد فيه هذه العوالم مصنوعة من الجواهر. أجساد الكائنات المختلفة رائعة وجميلة، والخصائص المميزة المختلفة تصبح أكثر روعة كلما سمونا أكثر بعوالم الوجود.

مع ذلك، حتى عندما نُولد بأحد عوالم الوجود السامية، حيث كل شيء جميل ورائع، سيظل هذا وجودًا قهريًا. سيظل علينا أن نختبر المشاكل المتكررة غير المتحكم بها للسامسارا. على سبيل المثال، قد نولد بأحد تلك العوالم السامية، لكن عندها يحدث الموقف المتكرر غير المتحكم به للسقوط في إعادة ميلاد أسوأ. ثم مرة أخرى نولد بأحد العوالم السامية، ثم بعالم أدنى منه؛ لكن، في الحقيقة، أغلب الوقت نقضيه بحالات إعادة الميلاد الأسوأ. هذا ليس موقفًا مُرضيًا على الإطلاق، ومشابه، على سبيل المثال، للصعود أعلى ناطحة سحاب: ما أن نصل هناك، الشيء الوحيد المتبقي هو النزول.

يمكننا رؤية أن إعادة الميلاد كإنسان أو كديفا لا يمتلك بحد ذاته جوهرًا عظيمًا وأنه يتضمن فقط المشاكل المتكررة غير المتحكم بها. بناءً على هذا الفهم والإدراك، قد يتولد لدينا شكٌ بأنه ليست هناك حاجة لمثل إعادة الميلاد هذا، وأنه ليس هناك سببٌ للمحافظة على أخلاقيات الامتناع عن الأفعال العشرة الهدَّامة من أجل الميلاد كبشر أو كديفات. لكن، النقطة هنا هي ألا نرضى بمجرد تحقيق إعادات الميلاد الأفضل تلك، لكن بدلًا من هذا نتمنى مثل إعادات الميلاد هذه من أجل أن نكون قادرين بشكل أفضل على نفع الآخرين وحيث يمكننا تحقيق المزيد من النمو الروحاني. لن نكون قادرين على تحقيقهما ما لم نحصل على إعادات الميلاد هذه.

الظروف الأكثر ملاءمة لإعادة الميلاد البشري

عندما نولد كبشر، إذا كانت لدينا حياة طويلة، قوة جسدية هائلة، تأثير إيجابي كبير على الآخرين، وثروة هائلة من الموارد متاحة لنا، فسيسمح لنا هذا بأن نكون ذوي نفع أكبر للآخرين. على سبيل المثال، إذا كانت حياتنا قصيرة، عندها إذا كنا مهتمين فورًا بالتدرب الروحاني للدارما وكرسنا أنفسنا له، فسيكون من الصعب الانتهاء من كل تدريباتنا ودراستنا. إذا عانينا من مرض عضال أو إعاقة جسدية، فسيشكل هذا إعاقة عظيمة لنا. قد يمنعنا هذا أيضًا من أخذ عهود الرهبنة وأن نصبح رهبانًا وراهبات؛ لذا من المهم والمفيد جدًا أن تكون لدينا صحة جيدة.

علاوة على هذا، إذا ولدنا في عائلة جيدة وكنا أشخاصًا ذوي تأثير، عندها، بشكل طبيعي، لن تكون لدينا فقط الظروف الملائمة لتحقيق التقدم لأنفسنا، لكننا سنكون في وضع يستمع فيه الآخرون إلينا. سنكون قادرين على توفير التشجيع للآخرين طيلة مسارهم الروحاني. لهذا، إذا تمنينا أن يكون لدينا هذا النوع من إعادة الميلاد البشري، من الضروري بناء الأسباب المختلفة التي ستجلبه. يدخل في نطاق هذه الأسباب الاحترام الشديد للوالدين ولكل أولئك الذين لديهم المهارات العظيمة والخصال الجيدة.

بالإضافة إلى هذا، إذا كان لدينا جسد جميل ومظهر وسيم، سينجذب الآخرون إلينا بشكل تلقائي. سيأتون إلى أي مكان نكون فيه ليستمعوا لما نقوله. أسباب الحصول على هذا هي، على سبيل المثال، التأمل على بناء عادة الصبر والتحمل، ألا نغضب أبدًا، وأن نهب الطعام، الورود، العطور والقماش للتماثيل والتمثيلات المختلفة لبوذا. بالمثل، نحتاج لأن نهب الطعام والملابس للفقراء والمرضى. بهذه الطريقة، نبني أسباب المظهر الحسن.

إذا كان لدينا قدرًا كبيرًا من التحمّل الجسدي والعزيمة والقوة الذهنية، سنكون قادرين على تحقيق الكثير وسنكون قادرين على مواصلة تدربنا لنهايته. أسباب هذا هو القيام بالأفعال المختلفة الجسدية والذهنية التي لا يمكن للآخرين حتى تخيل القيام بها وإنجازها.

من المهم أيضًا أن يكون موثوقًا بحدثينا، بحيث يأخذ الآخرين ما نقوله بشكل جِدّي، سواءً كانوا بشرًا أو ديفات، أو أيًا كان هذا الذي يستمع إلينا. إذا كانت لدينا تلك المصداقية، فسيسمح لنا هذا بتقديم مساعدة هائلة للآخرين. سبب هذا هو أن نكون في غاية الأمانة بأي شيء نقوله، ألا نكذب، ألا نستخدم لغة قاسية، ألا نرتكب أيًا من الأفعال الهدَّامة الخاصة بالحديث. على سبيل المثال، قد يكون هناك شخصان يقولان ذات الشيء بالضبط، لكن يستمع الآخرون لأحدهم ولا يستمعون للآخر. يكمن الفرق في نوعية الأفعال المختلفة التي قاما بها في الماضي. الشخص الذي كان عادةً ما يكذب ويتحدث في التفاهات ويثرثر -لا أحد سيُعير انتباهًا لما يقول.

هناك كل تلك الأفعال السببية التي تجلب تلك الخصال الحسنة كنتيجة لها. لهذا، من الضروري بناء كل أسباب إعادة الميلاد البشري بكل تلك الخصائص المتميزة. لذا من المهم للغاية القيام بكل تلك الأفعال السببية، لأنه إذا وُلدنا، على سبيل المثال، في عائلة أو مجتمع إجرامي أو بين أشخاص سلبيين للغاية، سيكون من الصعب جدًا علينا التغلب على هذا المعيق لتدربنا الروحاني. حتى إذا كانت لدينا خصال عديدة متميزة، من المهم ألا تكون لدينا العوامل الأخرى التي ستعيقنا عن الاستفادة الكاملة منها. لتحقيق هذا، نحتاج لأن نَهَبَ ترديدات بناء الإلهام المختلفة، مثل، "ليتني دائمًا أحظى بإعادة ميلاد بشري مُعزّز بالكامل بكل الخصال الإيجابية والظروف الملائمة. في كل حيواتي، ليته لا يُعاد ميلادي أبدًا بالمواقف التي فيها معيقات كبيرة يجب عليَّ التغلب عليها. ليتني دائمًا أكون في موقف أساعد فيه الآخرين وألا يُعاد ميلادي أبدًا، في أي حياة، كشخص يتسبب في قدر كبير من الأذى أو المشاكل للآخرين". هذه هي نوعية ترديدات بناء الإلهام التي نرغب في القيام بها من أجل أن يُعاد ميلادنا بجسد بشري ثمين مُعزز بكل الخصال الإيجابية والظروف الملائمة لاستخدامها كلها.

العزم على التحرر من السامسارا

لكن يجب ألا نكون راضين بمجرد تحقيق الميلاد البشري الثمين المعزز بكل الخصال الإيجابية. هذا لأنه بغض النظر عن روعة مثل هذه الحياة، يظل بها مشاكل متكررة غير متحكم بها. في الحقيقة، بغض النظر عن كم تبدو جيدة، هناك دائمًا مشاكل ومعاناة. أي موقف من المواقف المتكررة غير متحكم بها قد يُعاد ميلادنا به من مواقف السامسارا لا يحتوي إلا على المشاكل. من الضروري أن نكون واعين بهذا ونفكر فيه: "بغض النظر عن قدر الثراء، بغض النظر عن كم الأشياء الإيجابية التي يحققها هذا لي في حياتي، سيكون عليَّ أن أواجه الكثير من المشاكل". إذا فكرنا بشكل جدي في كل المعاناة والمشاكل المختلفة الموجودة، سننمي موقفًا داخليًا نتمنى فيه التحرر من كل هذا. على أساس من هذه الأمنية القوية للتحرر من كل المشاكل والمعاناة، سنعمل نحو تحقيق حالة التحرر. وهذا شيء، مرة أخرى، يمكننا القيام به على أساس من إعادة الميلاد البشري الثمين الذي لدينا.

هذا الموضوع يتم مناقشته هنا في هذا البيت:

(5) روائع الوجود القهري، حتى عندما ننغمس فيها، لا تَكفي أبدًا، هي بوّابة كل المشاكل، ولا تصلح لجعل ذهني آمنًا. بوعيي بهذه المساوئ، اَطلب الإلهام لأنمي اهتمامًا وشغفًا عظيمين بنعيم التحرر.

مشاكل وعيوب السامسارا

الجملة الأولى "روائع الوجود القهري، حتى عندما ننغمس فيها، لا تَكفي أبدًا"، تشير إلى أول نوع من المشاكل التي حتمًا نواجهها جميعًا بغض النظر عن نوعية إعادة الميلاد الذي نجد أنفسنا به. المشكلة التي بغض النظر عن كم الأشياء الرائعة التي لدينا -بغض النظر عن كم الثراء والمُتع التي لدينا- لا أحد يشعر أبدًا أن لديه ما يكفي؛ ما لديه غير مُرضٍ. إنه مثل عندما نكون في غاية العطش ونشرب ماءً مالحًا: بغض النظر عن كم الماء المالح، لن يُروي عطشنا. نفس الشيء  ينطبق على مَن لديهم قدرًا كبيرًا من المسرّات وما شابه. لأنهم مقيدون بموقف السامسارا المتكرر غير المتحكم به، لا يشعرون أبدًا بأن لديهم ما يكفي. دائمًا ما يرغبون في المزيد والمزيد. عندما يحقق شخصًا مكانة عالية أو رتبة ما، لا يشعر بأنه وصل إلى مكانة كافية بعد؛ دائمًا ما سيسعى للوصول إلى منصب أعلى وأعلى. هذا الموقف الذي يجد الجميع أنفسهم فيه: بغض النظر عن الثراء الذي لديهم، بغض النظر عن كم الأشياء التي جمعوها أو بنوها، الجميع يرغب في المزيد والمزيد. لكن كل تلك الأشياء زائلة في النهاية. بغض النظر عن كم جمعنا أو بنينا، سيتداعى في النهاية.

كلما كان لدينا أكثر، كلما حصلنا منه على المزيد من المشاكل، كما وَرَدَ هنا: "هي بوابة كل المشاكل". على سبيل المثال، إذا كانت لدينا ثروة من مليون جنيه، سيكون هناك قلق عندها مُصاحب للاحتفاظ بهذه الثروة، عدم فقدها، وما شابه. يتسبب لنا هذا في قدر عظيم من القلق. هناك أشخاص يمتلكون خمسة أو ستة جنيهات، فقط ما يكفي لشراء وجبة، ومع ذلك هم سعداء للغاية بهذه النقود القليلة. أذهانهم حرة. بينما هناك آخرون لديهم قدرًا كبيرًا من المال، ومع ذلك يتشبثون به بشدة وغير مستعدون لإنفاقه والاستمتاع حتى بخمسة أو ستة جنيهات منه. لذا، كلما كان لدينا المزيد، كلما جلب علينا هذا مشاكل أكثر: نصبح تعساء وما شابه.

وبغض النظر عن عدد الأصدقاء والمعارف الذين لدينا، النتيجة النهائية لاجتماع الأصدقاء هو افتراقهم وذهاب كل واحد منهم إلى منزله. النتيجة النهائية للاجتماع هو الافتراق، كلٌٌّ في طريقة. بغض النظر عن كم ارتفعنا، للأسفل سنعود. على سبيل المثال، عندما تم بناء تلك القلعة التي نحن فيها الآن، كانت صَرْح رائع الجمال، ثم عبر الزمن تحولت إلى أنقاض. هكذا هي الأشياء، كما وَرَدَ في النص، "لا تصلح لجعل ذهني آمنًا". بغض النظر عن روعة شيء ما، فهو ممتلئ فقط بالعيوب.

هناك مشاكل أخرى مختلفة توجد أيضًا بغض النظر عن نوعية حالة إعادة الميلاد الذي نجد أنفسنا فيه. هناك مشكلة عدم الشعور بالرضا. هذه ذكرناها بالفعل. هناك أيضًا مشكلة انعدام اليقين في الحياة. يمكن لأحدهم أن يكون لديه منصب حكومي رفيع، منصب عالٍ للغاية، ثم في نهاية حياته، يُفلس ويصبح في غاية الفقر. هذا شيء يمكن أن يحدث حتى في ذات الحياة. بالمثل، أحدهم قد يكون صديقًا في مراحل مبكرة من الحياة ويتحول لأسوأ عدوٍّ بذات الحياة. بالمثل، شخص يكرهنا في بداية حياتنا ويعتبرنا ألد أعدائه يمكن أن يتغير ليصبح صديقنا المقرب لاحقًا. لذا، بهذه الطريقة، ليس هنا يقين بشأن أي شخص، عدوًا كان أم صديق. بالإضافة لهذا، بغض النظر عن كم الرغبة التي لدينا تجاه حدوث أشياء بعينها، أو الحصول على أشياء بذاتها، عادةً ما نجد صعوبة شديدة في الحصول على ما نرغب فيه والعكس غالبًا ما يحدث. في الحقيقة، يبدو أن كل الأشياء التي لا نرغب فيها تتساقط علينا.

معاناة إعادة الميلاد البشري

التحدث فقط عن البشر والمعاناة التي يختبرونها، هناك كل أنواع المشاكل من الشيخوخة والهَرَم. نتقدم أكثر وأكثر في السن، يزيد مرضنا أسوأ وأسوأ. هذا شيء يمكن أن نراه بوضوح في أنفسنا. هناك أيضًا معاناة ومشاكل المرض. هذا شيء يمكننا أيضًا رؤيته من حولنا: هناك الكثير من المرضى. عندما نصاب بالمرض، نختبر كل معاناة وتعاسة المرض، مثل تلك التي يعاني منها الآخرون.

هناك أيضًا المعاناة المُفجعة التي تصيبنا بوقت الموت. بغض النظر عن جودة الدواء أو الأطباء بالمستشفى التي نحن فيها في وقت الموت، لن يفيد أيًا منها. في هذا الوقت، التعاسة والمعاناة التي نختبرها هي من أسوأ أنواع المعاناة التي سنختبرها أبدًا. إذا لم يكن هناك شيء كهذا في ميلادنا المستقبلي، فهذا سيكون مقبولًا. عندما نموت ستكون هذه هي النهاية، لكن في الحقيقة هذا غير صحيح. هناك إعادات ميلاد مستقبلية. وسيكون علينا اتخاذها.

قبل اتخاذ إعادة الميلاد، نموت، وبعد هذا مباشرة، ننتقل إلى الحالة الوسطية، الباردو. هناك، إذا كنا قد بنينا قدرًا كبيرًا من الإمكانات السلبية، سنختبر العديد من الأشياء المخيفة وسنكون خائفين ونعاني بشكل كبير. بغض النظر عن كم العمل الذي قمنا به في حياتنا في محاولة بناء الأمان المادي من حولنا عبر جمع قدر عظيم من الثراء والممتلكات، في وقت الموت سيكون علينا ترك كل هذا خلفنا. لا يمكننا أخذ أي شيء معنا -لا أصدقاء، لا رفاق ولا أقارب؛ لا أحد يمكنه أن يأتي معنا. علينا أن نذهب وحيدين للحالة الوسطية، بأنفسنا. بقيامنا ببناء قدر ضخم من الإمكانات السلبية في حياتنا، سنجد أنها خبرة مرعبة جدًا. المعاناة التي سنختبرها هناك ستكون سيئة للغاية.

ككائنات في تلك الفترة الوسطية، سنكون على هيئة بشر ولكن في حجم طفل بسن الثامنة. الحالة الوسطية لتلك الحياة مرت بالفعل؛ كانت قبل ميلادنا. الفترة الوسطية التي سنواجهها ستأتي بعد موتنا في الحالة الوسطية السابقة لميلادنا التالي. لذا إذا كنا سنولد مرة أخرى كبشر، فالهيئة التي سنتخذها أثناء المرحلة الوسطية ستكون مشابهة لتلك التي سنكون عليها في الحياة التالية. هذا لأن المرحلة الوسطية للوجود وإعادة الميلاد التالي للوجود كلاهما تقذفهما ذات الكارما التي تدفعنا لإعادة الميلاد المستقبلي.

فقط لأسباب ميمونة تحدثتُ في سياق كوننا بشر في هذه الحياة والميلاد كبشر في الحياة التالية. لكن من الواضح أنه لن يكون هذا الحال دائمًا. يمكن أن ننتقل من حالة إعادة ميلاد إلى أخرى. لكن، إذا لم نولد كبشر مرة أخرى، في نهاية الحالة الوسطية، سيكون علينا خوض الوجود لحظة الإخصاب. ثم سنجد أنفسنا في رحم أمهاتنا، والمعاناة والتعاسة التي ستكون هناك في غاية الحِدّة. سنكون مجبرين على أن نصمت ونُحبس في مساحة ضيقة لما يزيد عن تسعة أشهر -تسعة أشهر وعشرة أيام. إذا فكرنا في أن نصمت الآن بخزانة ضيقة بلا نافذة أو باب لتسعة أشهر، فكروا فقط في كم ستكونون تعساء -كم ستكرهون أن تحبسوا بهذه الطريقة لهذه المدة. إذا فكرنا بهذه الطريقة سنجد أن معاناة الحبس في الرحم أمر مروّع.

ثم، فكروا في المشاكل التي يواجهها الرُضّع. ليس هناك متعة في أن يكون الإنسان رضيعًا: لا يمكننا الحديث، لا يمكننا المشي، وليس لدينا تحكم في أمعائنا. طيلة الوقت نلوّث أنفسنا بالبراز وليس هناك متعة في هذا. ثم، بينما نكبر قليلًا، كأطفال، يكون علينا خوض كامل عملية التعلم في المدرسة. وهذا أيضًا فيه الكثير من المشاكل وليس بالشيء السَّار.

هناك أنواع من المواقف التي تتكرر بشكل غير متحكم فيه. نمر عبر ذات الدائرة مرة بعد الأخرى. هذه هي السامسارا، الوجود المتكرر غير المتحكم به. وحتى عندما نولد مرة أخرى كبشر، يكون علينا خوض كامل الدورة المتكررة غير المتحكم بها مرة بعد الأخرى. أحيانًا تسير الأمور بشكل مقبول وأحيانًا أخرى لا تسير بشكل جيد. في الحقيقة، معظم الأوقات لا تسير الأمور بشكل لطيف. في الحقيقة، حياتنا ستكون فقط ممتلئة بالمشاكل والمعاناة. إذا كانت لدينا أشياء -مال، ممتلكات، أصدقاء، شهرة، وما شابه- ستكون لدينا مشاكل متعلقة بالاحتفاظ بها، وإذا لم تكن لدينا تلك الأشياء المختلفة التي نرغب فيها، ستكون لدينا مشاكل عدم امتلاكها والرغبة التي لدينا في امتلاكها. باختصار، بغض النظر عن الموقف، سواءً هناك أشياء أم لا، فنحن سنفقدها؛ وستظل لدينا مشاكل ومعاناة.

المصدر الحقيقي لكل المشاكل

الآن، ما يجب التفكير فيه: ما هي الأسباب، ما هو الجِذر، لكل تلك الأشكال المختلفة من المعاناة والمشاكل؟ إذا كانت المشاكل التي لدينا ليس لها سبب على الإطلاق، لما كانت هناك طريقة للتخلص منها. لكن في الحقيقة لها سبب. إذا تساءلنا، "ما هو جِذر أو الشيء المُتسبب في كل مشاكلنا؟" سنرى أنها جميعًا تأتي من المصدر الحقيقي لكل المشاكل والمعاناة، أي سلوكنا القهري ومشاعرنا ومواقفنا الداخلية المزعجة. سلسلة مشاكلنا كلها نتيجة التصرف القهري، وهذه هي الكارما. نتصرف بشكل قهري نتيجة لمختلف المشاعر والمواقف الداخلية المزعجة أو الأوهام. ما مصدرها؟ تنشأ جميعًا بسبب التشبث بالأشياء كما لو أنها موجودة بالطرق المستحيلة -على سبيل المثال، كما لو أن لها هوية يمكن العثور عليها، متأصلة، مُثبّتة بشكل مستقِل، من جانبها. هذا النوع من عدم الوعي أو الجهل والذي نتشبث نتيجة له بالأشياء كما لو أن لها هوية حقيقية يمكن العثور عليها هو جذر كل مشاكلنا. عندما نتشبث بهذه الطريقة، يصبح هذا سبب كل شيء خاطئ؛ هذا هو جذر كل مشاكلنا ومعاناتنا.

أدَارَ بوذا بنفسه عجلة الدارما ثلاث مرات وأطلق ثلاث دورات من نَقْلِ الإجراءات الوقائية. هذا شيء معروف. دورة نقل التعاليم الأولى تتعلق بالأربع حقائق التي تراها الكائنات سامية الإدراك كحقيقة، الحقائق الأربعة النبيلة. مِن بين الحقائق الأربعة التي تُدركها الكائنات سامية الإدراك -أريا- كحقيقة، الحقيقة الأولى هي المشاكل الحقيقية أو المعاناة الحقيقية؛ الثانية متعلقة بالمصدر الحقيقي للمشاكل أو أشكال المعاناة، أي السلوك القهري والمشاعر المزعجة. ومصدرها التشبث بالأشياء كما لو أن لها هوية حقيقية.

تخليص أنفسنا من التشبّث بالهويات الحقيقية

في الحقيقة، الأشياء ليست لها هويات حقيقية، قابلة للعثور عليها، متأصلة، مُثَبتة بشكل مستقل من جانبها. عندما نُسقط على الأشياء أن لها مثل تلك الهويات، بينما هي في الحقيقة ليست كذلك، ونصدق أن ما نُسقطه حقيقة، هذا ما المقصود به هنا عندما نتحدث عن التشبث بالأشياء كما لو أن لها هويات حقيقية. هذا إدراك فاسد، لأنه يتشبث بشيء مستحيل لا وجود له إطلاقًا؛ ليست هناك هوية حقيقية. محاولة التشبث بالأشياء كما لو أن لها مثل تلك الهوية لَهُوَ شيء مُنْحَرِف عن الواقع. هو لا يُشير إلى شيء حقيقي؛ لا يتوافق مع الواقع. ولذا، إذا نمّينا فَهْم أنه ليس هناك هويات حقيقية، فسيصبح هذا المُضاد المباشر لعدم الوعي أو الجهل الذي نتشبث به بالأشياء كما لو كانت هذه هي حالتها. لذا الفهم والذهن الذي ندرك به أنه ليس هناك شيئًا كالهوية الحقيقية سيكون له تأثير معاكس لنوعية الموقف الداخلي الذي يتشبث بالأشياء كما لو أن لها مثل هذه الهوية.

إذا تساءلنا، "كيف يمكن لهذا الفهم أن يؤثر على هذا الموقف الداخلي المُحَرّف للواقع؟" لأنه عندما يتم بناء هذا الفهم بقوة كعادة نافعة للذهن فإن إدراك أنه ليست هناك هوية حقيقية سيُزيل تلقائيًا الموقف الداخلي الذي يتشبث بالأشياء كأن لها مثل هذه الهوية. هذا لأن التصديق في وجود شيء وإدراك أنه غير موجود، ولم يوجد أبدًا، يستبعد أحدهم الآخر. عبر هذه العملية، عندما نتوقف عن التشبث بالأشياء كما لو أن لها هويات حقيقية، لن يكون لدينا أي مشاعر أو مواقف داخلية مزعجة.

إنه مثل قطع جِذر الشجرة، تسقط الشجرة ولا تنمو لها أوراق أو أفرع. عندما نُزيل هذا التشبث بالأشياء كما لو أن لها هويات حقيقية، يُزيل هذا كامل الأربعة والثمانون ألف نوعٍ من المشاعر والمواقف الداخلية المزعجة التي قد تنشأ من سوء فهم الواقع. بعبارة أخرى، حيث أن كل الأربعة والثمانون ألف نوعٍ من المشاعر والمواقف الداخلية المزعجة تنشأ عن التشبث بأن للأشياء هويات حقيقية، عندما نُدرك أنه ليس هناك مثل تلك الهويات، فإن هذا يقتلع ويزيل جذر كل المعاناة. لذا هذا الفهم بأنه ليست هناك هويات حقيقية هو جذر التحرر. لهذا من المفيد للغاية أن نُعوِّد أنفسنا على هذا الفهم ونبنيه كعادة نافعة. عندها ستتوقف كل مشاكلنا ومعاناتنا.

التّنقية والثنائيات المزعجة في الحقائق الأربعة النبيلة

هذه هي الحالة التي يتوقف فيها نشوء كل مشاكلنا، حالة غياب أو إيقاف مشاكلنا، والتي تُعرف باسم "الإيقاف الحقيقي"، "الانقطاع التام". إذا تساءلنا، "كيف يتم إيقاف كل تلك المشاكل؛ كيف يمكن تحقيق حالة الإيقاف الحقيقي لكل المشاكل؟" يتم تحقيقها عبر مسار الذهن الذي نفهم به أنه ليس هناك شيئًا كالهوية الحقيقية لأي شيء. مثل هذا الفهم هو المسار الحقيقي للذهن -الحقيقة النبيلة الرابعة. لذا، الشيء الذي سيتسبب في الإيقاف الكامل لكل مشاكلنا هو مسار الذهن الذي نصل به للوعي التمييزي بأنه ليس هناك مثل تلك الهوية الحقيقية -بعبارة أخرى، الوعي التمييزي بالخلو أو الغياب التام للهويات الحقيقية. هذا مسار الذهن الحقيقي المُتسبب في تحقيق نتيجته، والتي هي الإيقاف الحقيقي لمشاكلنا، بحيث لا تتولّد مرة أخرى أبدًا. لذا، المسارات الحقيقية للذهن والإيقاف الحقيقي هما ثنائية، الأول هو السبب والثاني هو النتيجة.

لكن علينا أن نميز بحرص ما هو نوع نتيجة الإيقاف الحقيقي. إنه نتيجة الانفصال، والذي هو نوعية بعينها من النتائج. هو ليس نوعًا من النتائج القائمة على أساس من تراكم الأسباب والشروط ليتحقق كنتيجة، مثل تحقيق الإيقاف الحقيقي. لكن هذا الإيقاف الحقيقي ذاته هو -نتيجة- ظاهرة ثابتة غير قائمة على شروط. الانفصال كنتيجة هو حالة من الغياب الذي لا يعتمد في ثباته اللحظي على أسباب وشروط ولا يتغير أبدًا.

لذا، الإيقافات الحقيقية ومسارات الذهن الحقيقية هما الجانب المُنقي للحقائق الأربعة التي تُرى كحقيقة، الحقائق الأربعة النبيلة. وعندما ننظر للجانب المزعج لتلك الحقائق، يشير هذا لأول حقيقتين. هنا، الأسباب الحقيقية للمشاكل هي السبب، والمشاكل الحقيقية ذات نفسها هي النتيجة.

هناك مانترا يُطلق عليها "جوهر النشوء الاعتمادي" والتي نكررها كثيرًا: آوم يا دارما هاتو برابافا، هاتو تِشان تَتغاتوهيا فادَتِ، تِشانشا يا نيرودا، إفَم فَدي ماهاشرامانايا سوها. هي جملة سنسكريتية تعني: "أوم، كل الظواهر تتولّد من سبب، هكذا تحدَّث مَن ذهَبَ بهناء عن الأسباب؛ وأي إيقاف لها تحدَّث عنه بالمثل الزاهد العظيم، سوها". تشير هذه المانترا إلى تلك العلاقة بين كلٍ من السبب والنتيجة داخل الحقائق الأربعة النبيلة.

حقَّق بوذا حالة النقاء الذهني والنمو الكامل -حقَّق الاستنارة. ما إن حقق الاستنارة، علَّم أتباعه المختلفين طريقة تحقيق التحرر من كل المعاناة. علَّمهم تلك الحقائق الأربعة التي تراها الكائنات سامية الإدراك كحقيقة. إذا اتبعنا تلك التعاليم والتوجيهات المتعلقة بالحقائق الأربعة النبيلة، يمكن أن نحقق بالفعل حالة التحرر كما فعل بوذا.

الاهتمام بتحقيق التحرر

رأينا أن كل المشاكل هي شيء بالتأكيد لا نرغب فيه، وكل واحد منا بالتأكيد يرغب في السعادة. علاوة على هذا، نرغب في أن تكون لدينا نوعية السعادة الثابتة والتي تدوم طويلاً. السعادة الوحيدة التي هي مِن تلك النوعية هي سعادة تحقيق حالة التحرر -الحرية من كل المعاناة والمشاكل. نحن لسنا فقط مهتمين بتحقيق التحرر من السامسارا، لكن أيضًا مقتنعون بأن التحرر هو شيء يمكن تحقيقه. لكن، تحقيق حالة التحرر من المعاناة لا تنتج بدون أسباب. عوضًا عن هذا، هي بالتأكيد تنتج عن أسباب: سبب تحقيق حالة التحرر هو الوعي التمييزي والذي نرى به أنه ليس هناك هوية حقيقية لأي شيء. إذا حققنا هذا الفهم وبالتالي بنينا سبب التحرر عبر تنمية هذا الوعي التمييزي، يمكننا حقًا تحقيق السعادة التي نرغب فيها. يمكننا تحقيق حالة السعادة الدائمة، حالة سعادة التحرر من كل المشاكل والمعاناة. إذا تمنينا أن نحقق حالة التحرر تلك، علينا أن ننمي اهتمامًا شرِهًا بها.

كيف ننمي هذا الاهتمام الشّرِه؟ كيف نحقق حقًا تلك الحالة؟ أولاً وقبل أي شيء، عبر توليد ما يُعرف باسم "الوعي التمييزي الأسمى"، أحيانًا يُطلق عليه "التدرب على الحكمة العليا". من أجل تحقيق هذا، نحتاج لأن نتدرب قبله على التركيز الاستغراقي. ومن أجل تحقيق هذا التدريب، نحتاج أن نتدرب على التركيز الاستغراقي أولًا. الالتزام الأخلاقي والتركيز الاستغراقي يشكلان الأساس الصلب للوصول إلى الوعي التمييزي السامي. يشتمل التدرب على الالتزام الأخلاقي المحافظة على مجموعات مختلفة من الامتناعات بهدف التحرر الفردي -عهود البراتيموكشا.

تعهُّد الامتناع من أجل التحرر الفردي وأهمية المحافظة على الأخلاق

(6) اَطلب الإلهام لأولِّد بقلبي، بحضور ذهني، انتباهًا، واعتناءً شديدًا،والذي يحرّكه فكر الدافع النقي، تدرب التحرر الفردي هو جِذر التعاليم.

هناك ثماني مجموعات من عهود الامتناع للتحرر الفردي -ثلاثة لغير الرهبان وخمسة لهؤلاء الذين يرتدون الأردية الرهبانية. من بين المجموعات الخمسة لهؤلاء الذين ارتدوا الأردية الرهبانية، هناك مجموعة للرهبان كامِلي الرسامة، بها مائتان واثنان وخمسون امتناعًا. سلسلة العهود للراهبات الكاملات الرسامة، في تقليد عهود مولاسَرفاستيفادين المتّبع في التبت، لم يعد له وجود، لكن هناك مجموعتان من الامتناع للرهبان والراهبات المستجدين، وأيضًا مجموعة عهود الراهبات ما قبل الرسامة. هناك أيضًا مجموعة عهود الأشخاص من غير الرهبان -لكلٍّ من الرجال والنساء، ثم هناك أيضًا عهود اليوم الواحد. لذا هناك ثمانية مستويات مختلفة من عهود الامتناع للتحرر الفردي. يغض النظر عن أي مستوى من المستويات تعهدنا بالمحافظة عليه، نحتاج للقيام بهذا بشكل نقي وجاد، حتى ولو كان الثمن حياتنا. أيًّا كان نوع الالتزام الأخلاقي الذي نلتزم ونتعهد بحمله -حتى ولو مجرد اتباع الالتزام الذاتي الأخلاقي لمنع أنفسنا عن الأفعال العشرة الهدامة- نحتاج لأن نتمسك به بنقاء وحرص. المحافظة على الالتزام الذاتي الأخلاقي بهذه الطريقة هو جِذر كل التحققات التي أشار إليها بوذا. يمكنه أن يجلب التحرر الفردي لكل من يتمسك بتلك المجموعات المختلفة من العهود. لذا، يُطلق عليها "عهود الامتناع للتحرر الفردي". هذا هو معنى الكلمة السنسكريتية، براتيموكشا.

إذا لم نحافظ على أي قدر لائق من الالتزام الأخلاقي أو الفضيلة، من المُحال أن يعاد ميلادنا كبشر أو حتى كديفات. على سبيل المثال، حتى إذا تدربنا بشكل عظيم على الكرم -لنفترض أنه لدينا غرفة مثل هذه مليئة بالأموال والممتلكات وكنا نمنحها لآلاف الأشخاص كل يوم- مع ذلك، إذا لم نكن أشخاصًا أخلاقيين وحافظنا على التزام أخلاقي ذاتي لائق، عندها قد تكون نتيجة كرمنا هي أن يعاد ميلادنا أثرياء، لكن ليس بالضروري كبشر أثرياء. قد يعاد ميلادنا بأحد حالات إعادة الميلاد الأسوأ، على سبيل المثال كإحدى كائنات الناغا أو البريتا التي لديها قدرًا عظيمًا من الممتلكات والجواهر. هناك كائنات بريتا، على سبيل المثال، تعيش في قصور مصنوعة من الذهب. لكن، بسبب قوة الشُّح الذي كان لديها، ليس لديها شيئًا تأكله سوى بتقطيع أجزاء من أجسادها لتقتات عليه. مثل تلك الأشياء تحدث وهي نتيجة الكرم بدون أخلاق.

لكن إذا كان لدينا نفس التصرف بكرم بينما حافظنا على التزام أخلاقي صارم، عندها ستكون النتيجة هي أن يعاد ميلادنا كبشر ونكون قادرين على الاستمتاع بقدر عظيم من الثراء. علاوة على هذا، سنكون قادرين على استخدام تلك المصادر التي لدينا للاستمرار في كوننا كرماء، وبناء إمكانات إيجابية أقوى وأقوى لنستمر في تحقيق المزيد من النمو الروحاني. لذا كرمنا والتزامنا الأخلاقي سيعطيان ثمارهما مرة بعد الأخرى. بينما، إذا كنا كرماء بلا أخلاق، عندها النتيجة لن تكون إعادة ميلاد كبشر، ولكن بإحدى حالات إعادة الميلاد الأسوأ. ما قمنا به سيعطي نتائجه فقط في سياق الثراء الذي قد يكون لدينا في تلك الحالات الأسوأ ولكننا لن نكون في وضع يسمح لنا بجمع المزيد من الإمكانات الإيجابية على هذا الأساس.

اِتباع الالتزام الذاتي الأخلاقي والتدرب عليه بالكامل، حتى أصغر تفصيلة علمها بوذا، هو بالطبع، أفضل طريقة للتدرب على الدارما. لكن حتى إذا لم يمكننا القيام بهذا، إذا اتبعنا النوعية الأساسية من الأخلاق التي علمها بوذا، سيُعاد ميلادنا كبشر بين دائرة تلاميذ المعلم الكوني التالي، بوذا الخامس لهذا الدهر، ماتريا. هذه خاصية متميزة أشار إليها بوذا.

الالتزام الأخلاقي إذن هو قلب أو جوهر كل التدريبات البوذية. من أجل تحقيق التحرر، نحتاج للتدرب على الوعي التمييزي السامي، والذي نفهم من خلاله أنه ليس هناك هوية حقيقية. من أجل تحقيق هذا، نحتاج للتدرب على التركيز الاستغراقي السامي. هذا ما ناقشناه في البيت الأخير.

ملخّص لدافع النطاق الأوسط

لقد حققنا الآن تقدمًا عظيمًا من حيث بدأنا كأشخاص ذوي دافع أولي. قبل هذا، كنا فقط مهتمين بتحسين حيواتنا المستقبلية وأن نولَد كبشر أو كديفات. لكن الآن نرى أنه بغض النظر عن مكان إعادة ميلادنا، ما ينتظرنا هو فقط المشاكل المتكررة غير المتحكم بها. نمّينا أمنية تحقيق التحرر من كل المشاكل والمعاناة أيًا كانت. هذا هو المستوى الأوسط للدافع، والذي نتمنى به تحقيق حالة التحرر من مواقف السامسارا المتكررة غير المتحكم بها.

إذا نمينا مسارات الذهن المختلفة تلك التي أشرنا إليها هنا سنصل لاِجْتِثَاث جِذر كل مشاكلنا. يمكننا حقًا تحقيق حالة تحرر الكائنات المحررة. باختصار، إذا انخرطنا في كل تلك التدريبات التي أشرنا إليها هنا وقمنا بهذا من أجل تحقيق التحرر لأنفسنا من مشاكلنا الفردية، فهذا سيكون بالفعل نوعية دافع شخص بالنطاق الأوسط.

الحاجة إلى تحقيق المزيد، الانتقال إلى مستوى الدافع المتقدِّم

لكنه ليس كافيًا أن نتحرر نحن فقط من كل مشاكلنا. بالتأكيد، من الجميل واللطيف أن نكون كائنات متحررة، أرهات، وليست لدينا أي مشاعر أو مواقف داخلية مزعجة. لدينا كل أنواع قوى الإدراك الاستثنائي، القِوى الخمس المختلفة للتجسد وما شابه، لكن لا يكفي أن نتخلص نحن فقط من المشاكل. لذا، فكما أن الأشخاص العاديين ليسوا راضين بما لديهم، المتدرب الروحاني عندما يفكر في حالة التحرر الفردي لنفسه فقط أيضًا لن يكون راضيًا عن هذا؛ إنه ليس كافيًا.

المشكلة هنا هي أننا لن نكون قادرين في حالة التحرر الفردي فقط، على تحقيق غرض جميع الكائنات الأخرى، جميع الكائنات المحدودة، جميع الكائنات الواعية. وكيف يمكننا حقًا مساعدة الآخرين بأذهان وأجساد محدودة؟ الطريقة الوحيدة التي يمكننا بها مساعدة الكائنات المحدودة هي بأن نكون أنقياء الذهن بالكامل ومتطورين كليًا، بأن نكون بوذات. كوننا مجرد كائنات محررة، أرهات، ليس كافيًا. كأرهات، ليست لدينا بعد القدرة على مساعدة الجميع.

لماذا، ككائنات محررة، لن نكون قادرين على تحقيق غرض كل الكائنات الأخرى؟ نعم، صحيح أننا في هذه الحالة سنكون قد أزلنا كل المعيقات الناتجة عن المشاعر والمواقف الداخلية المزعجة -ليس لدينا المزيد من المشاعر أو المواقف الداخلية المزعجة. لكن هناك مجموعة أخرى من المعيقات بجانب المعيقات الشعورية. هناك في الحقيقة مجموعتين من المعيقات، ولم نقم بعد بإزالة الثانية -المعيقات المعرفية الخاصة بكل الأشياء القابلة للمعرفة. لأنه لا تزال لدينا معيقات خاصة بكل الأشياء القابلة للمعرفة وتمنع كلية المعرفة، فنحن لم نحقق بعد غرضنا بالكامل. إذا لم نقم بهذا ونحقق تلك الحالة الأسمى التي يمكننا تحقيقها، كيف سنكون قادرين على القيام بهذا للآخرين؟ وكيف لم نحقق بعد غرضنا؟ هذا لأننا حتى بعد تحقيق حالة التحرر، لم نُدرك بعد كامل وأسمى إمكانياتنا؛ لم نحقق بعد حالة بوذا.

تعريف عام للقلب المكرّس للبوديتشيتا

ما هي الحاجة إلى تحقيق حالة الاستنارة؟ ما الداعي إلى تحقيق حالة النقاء الذهني الكامل والنمو التام، حالة النقاء الكامل والنمو الكلي؟ سبب خلف تحقيق تلك الأشياء هو أن نكون قادرين على مساعدة الآخرين بقدر الإمكان. عندما ننمي تكريسًا كاملًا لهذا الهدف، تلك الحالة الذهنية هي ما تُعرف باسم القلب المكرس للبوديتشيتا. ما الذي نهدف إليه هو أغراض جميع الكائنات وما ننوي القيام به هو تحقيق تلك الأغراض بأفضل ما لدينا. بالإضافة لهذا، أذهاننا مركزة بالكامل على استنارتنا الشخصية المستقبلية، والتي لم نَحُزْها بعد، لكن يمكن تحقيقها، وعندما نحققها، سنكون قادرين على تحقيق أغراض جميع الكائنات. إذا لم نكرس قلوبنا لهذا الهدف بتلك الطريقة، لن نستطيع تحقيق أي نوع من حالات الذهن الشاسع لناقلة ذهن الماهايانا. حتى إذا اكتسبنا قدرًا هائلًا من الفهم الصحيح للخلو أو الواقع، إذا لم يكن لدينا القلب المكرس للبوديتشيتا، لن نكون قادرين على تحقيق حالة بوذا.

نوعية القلب المكرس للبوديتشيتا هو شيء علينا العمل عليه. تنمية هذا التكريس بإخلاص ليس بالشيء الذي يحدث بضغطة زِر. لذا، ما الذي يعتمد عليه هذا القلب المكرس للبوديتشيتا؟ يعتمد على الشفقة كأساس وجِذر له. لذا الشفقة العظيمة هي الشيء الأساسي الذي علينا التأمل عليه أولًا وبناؤه كعادة نافعة للذهن.

الشفقة

ما هي الشفقة؟ هي حالة اعتناء محب قوي، والذي نتمنى به للجميع أن يكونوا أحرارًا من مشاكلهم وتعاستهم. هذه هي الشفقة. الأمنية للجميع أن يكونوا سعداء هي ما يُعرف باسم "الحب". وعندما يكون لدينا الموقف الداخلي الذي يدفعنا إلى التفكير في "سأقوم بشيء لأجل هذا؛ سأعمل على جلب السعادة وإزالة معاناة الجميع"، هي الحالة الذهنية التي يُطلق عليها "العزم الاستثنائي". لكن حتى إذا كانت لدينا تلك الحالة والتي نعقد فيها العزم على العمل على جلب السعادة للجميع وإزالة معاناتهم، في الحقيقة لن نكون قادرين على تحقيق هذا. حسنًا، مَن يستطيع؟ فقط بوذا كامل الاستنارة، شخص ذو ذهن نقي بالكامل ونمو تام، هو من لديه القدرة على تحقيق هذا. لذا، عندما نُكرس قلوبنا كي نكون قادرين على تحقيق هذه الحالة من أجل أن نكون قادرين على تحقيق النفع الفعلي للجميع، جلب السعادة لهم وإزالة معاناتهم، هذا ما يُعرف بالقلب المكرس للبوديتشيتا.

حالة العزيمة الاستثنائية والقلب المكرس للبوديتشيتا كلاهما نتيجة تنمية الشفقة العظيمة، بينما الحب هو سببهما. من المهم للغاية بناء الشفقة كعادة نافعة للذهن -بعبارة أخرى، التأمل عليها- لأنها ستصبح الجذر الذي ستنمو منه تلك الحالات العظيمة للذهن والقلب. إذا وَلَّدنا الشفقة كعادة نافعة للذهن، سيُنقي هذا تلقائيًا كمًا هائلًا من الإمكانات السلبية التي قد نكون ولَّدناها سابقًا.

طريقة أسانغا في تنمية الشفقة

هناك رائدان عظيمان لتعاليم ناقلة الذهن الشاسع، ماهايانا، أحدهما أسانغا. بذل قدرًا عظيمًا من الجهد لسنوات في محاولة تنمية الإدراك حتى يُجسد ويصل لماتريا، أحد تمثيلات جوانب شخصية بوذا. المكان الذي قام فيه بمعتزله كان قرب دير نالاندا، قريبًا جدًا من قمة فاولتشار، في كهف. لاثني عشر سنة قام بتدرب مكثف لتجسيد ماتريا. تدرب أولًا لثلاث سنوات، ثم توقف عن تدربه، ثم عاد مرة أخرى إلى الكهف ليستمر لثلاث سنوات أخرى. استمر في سعيه في مجموعات كلٍ منها لثلاث سنوات حتى وصل إجمالًا إلى اِثني عشر سنة.

عندما عاد من الكهف في غاية الضيق بعد اِثني عشر سنة دون نتيجة، رآى كلبًا كبيرًا مصابًا بمرض جلدي مريع -كان بدون فراء على جسده، فقط الجلد بجراح في الجزء السلفي من جسده تخرج اليرقات منه. مع ذلك، كان الكلب ينبح بغضب. رؤية هذا الكلب في مثل تلك الحالة البائسة، نمى أسانغا شفقة عظيمة تجاهه، بسبب رؤية أنه، ليس فقط بلا فراء، لكن جلده به جراح سيئة جدًا. وليس هذا فقط، الجراح ملوثة باليرقات، تزحف منه، ويبدو في حالة سيئة جدًا. لذا، حركته الشفقة نحو الحيوان البائس، قرر أن يحاول القيام بشيء. ذهب إلى البلدة القريبة وجلب سكينًا حادةً. عاد وذهب ليزيل اليرقات من الكلب، لكن بطريقة لا تقتل اليرقات. لذا قطع جزءً من لحمه ووضعه على الأرض كمصدر بديل للغذاء ووضع عليه اليرقات التي أزالها من الكلب. لم يرغب في إيذاء اليرقات بإزالتها من الكلب بإصبعه، لذا انحنى برفق وأزالها من جراح الكلب بلسانه.

أغلق عينيه بينما ينحني للأسفل، أخرج لسانه محاولًا نزع اليرقات، لكنه لم يستطع أبدًا لمس الكلب. فتح عينيه ورآى أمامه، في المكان الذي فيه الكلب، ماتريا نفسه، بكل روعته. أمسك برداء ماتريا وسأله، "لقد كنتُ أعمل جاهدًا لاثنى عشر سنة محاولًا الوصول إلى رؤيتك. لماذا لم أكن قادرًا أبدًا على تحقيق هذا حتى الآن؟" قال ماتريا، "حسنًا، لقد كنت هناك معك طيلة الوقت لاثني عشر سنة. لكنك كنت في غاية العمى كي تراني. ذهنك كان فيه الكثير من المعيقات. لكن شفقتك العظيمة أصبحت سببًا لإزالة تلك العوائق، لذا يمكنك الآن رؤيتي. كدليل على أني كنت أمامك طيلة هذا الوقت، اُنظر هنا أسفل ردائي. هذا كل المخاط والبصاق الذي بصقته طيلة تلك السنوات، موجود هنا على ردائي".

كان أسانغا في غاية الابتهاج لرؤيته لماتريا حتى أنه وضعه على كتفيه وذهب إلى البلدة، التي كانت مدينة كبيرة، واستعرض صائحًا على الجميع، "تعالوا وانظروا ماتريا الرائع". جاءه الناس ولكن لم يستطع شخص واحد رؤية أي شيء على كتفيه. قالوا، "يا لأسانغا المسكين، كان يتدرب حتى جُن". ثم أخذ ماتريا أسانغا معه إلى أرض توشيتا النقية. هناك علمه خمسة نصوص خاصة به. بعدها جلب أسانغا تلك النصوص الخمسة. هذا هو مصدر سلسلة تعاليم التدريبات الشاسعة.

هذا ما يشير إليه هذا البيت:

(7) كما سقطتُ في محيط الوجود القهري، كذلك، سقطتْ جميع الكائنات الهائمة التي كانت أمهات لي. برؤية ذلك، اَطلب الإلهام لأنمي هدف البوديتشيتا السامي لأتحمل مسئولية تحرير كل هذه الكائنات الهائمة.

الخلاصة

يخص هذا البيت الشخص ذو دافع النطاق المتقدم. أولًا، عندما كان لدينا دافع النطاق الأولي، تعلمنا عن معاناة الموت وإعادة الميلاد بإحدى حالات الوجود الأسوأ. ثم، عندما تقدمنا لمستوى الدافع الأوسط، تعلمنا عن كل المشاكل والمعاناة الموجودة في أي موقف من مواقف السامسارا المتكررة غير المتحكم بها ونمينا العزم على التحرر منها جميعًا: نمينا التخلي.

هناك نوعان من العزم على التحرر: هناك العزم على التحرر من المشاكل والذي به نهجر الهَوَس بأشياء هذه الحياة، وهناك عزم التحرر والذي به نهجر هوس الأشياء بالحيوات المستقبلية. عندما ننمي النوع الثاني من العزم على التحرر، على أساس من التفكير في مشاكلنا وكيف سيكون الأمر عندما نتحرر منها، نُحوّل هذا العزم حينها من التركيز على أنفسنا إلى التركيز على الآخرين ونفكر بشأن مشاكل الجميع. العزم على التحرر بهذه الطريقة سيصبح حالة من العزم على تحرير الجميع من معاناتهم ومشاكلهم. بهذه الطريقة ننمي حالة الشفقة العظيمة، وبها نتمنى لكل الآخرين أن يتحرروا من معاناتهم. هذه الشفقة العظيمة ستكون أساسًا يمكننا منه التحرك نحو تنمية العزيمة الاستثنائية لتحمل مسئولية رفاه الآخرين والقلب المكرس للبوديتشيتا، والذي به نكرس أنفسنا لتحقيق أغراض جميع الكائنات وتحقيق حالة الاستنارة من أجل القيام بهذا. هذه هي المراحل المتدرجة التي درّبنا أنفسنا عليها.

سنكمل غدًا بقية النقاط المشار إليها هنا بينما نشرح البيت بشكل أكثر تفصيلًا.

Top