قبل أن يأتي العرب بالإسلام إلى آسيا الوسطى بوقتٍ طويل، وفي منتصف القرن السابع الميلادي، كانت البوذيَّة قد ازدهرت هناك مئات السنين. وكان ذلك بارزًا – على وجه الخصوص – على طول طريق الحرير، التي حملت التجارة بين الهند والصين الهانيَّة، وامتدت منهما إلى بيزنطة والإمبراطوريَّة الرومانيَّة. دعونا نُلخِّص باختصار الانتشار الأَوليَّ للبوذية في هذا الجزء من العالم، علَّنا نُعطي الخلفية التاريخية التي واجهها الإسلام حقَّ قدرها.
الجغرافيا
من حيث المناطق الجغرافية الحاليَّة ضمَّت الأقاليم البوذية الأولى في آسيا الوسطى وفي مختلف الأزمان ما يلي:
(١) كشمير الهنديَّة بإدارة باكستانيّة.
(٢) السهول الجبليَّة الباكستانيَّة الشماليَّة، مثل:
(٣) بنجاب الباكستانية، بما في ذلك وادي سوات وأفغانستان الشرقية غرب جبال هندو كوش.
(٤) وادي نهر جيحون شمالَ هندو كوش، بما في ذلك كلٌّ من تركستان الأفغانية جنوبَ جيحون وجنوب تركستان الغربية – جنوب شرق أوزبكستان وجنوب طاجيكستان – إلى شمال النهر.
(٥) شمال شرق إيران وجنوب تركمانستان.
(٦) المنطقة الواقعة بين نهريْ جيحون وسيحون، أي: تركستان الغربيّة الوسطى-شرق أوزباكستان وغرب طاجيكستان.
(٧) المنطقة الشمالية من سير داريا، أي شمال تركستان الغربيَّة – قرجستان وشرق كزاخستان.
(٨) جنوب شينجيانغ في جمهوريَّة الصين الشعبيَّة، أي جنوب تركستان الشرقية، شمال صحراء تاكلاماكان وجنوبها حول المنطقة المحيطة بحوض تاريم.
(٩) شمال شينجيانغ، بين جبال التيانشان وجبال ألطاي.
(١٠) منطقة التبت المستقلة: تشينغهاي وجنوب شرق قانسو وغرب سيتشوان وشمال غرب يونَّان، وكلها في جمهورية الصين الشعبية.
(١١) منغوليا الداخليَّة في جمهوريّة الصين الشعبيّة، وجمهورية منغوليا (خارج منغوليا)، وجمهورية بورياتيا في سيبيريا وروسيا.
كانت الأسماء التاريخية لهذه المناطق على النحو التالي:
(١) كشمير، وعاصمتها سرينغار.
(٢) جيلجيت.
(٣) غندهارا ومُدُنها الكُبرى، تكشاشيلا على جانب بنجاب الباكستانية من ممرِّ خيبر، وكابوُل على الجانب الأفغانيِّ، وسوات التي سُميَّت أوديانا.
(٤) باكتريا التي تمتدُّ لتشمل وادي نهر جيحون ومدينة بلخ في وسطها، بالقرب من مدينة مزار شريف الحالية.
(٥) بارثيا المعروفة سابقًا بخُراسان، ومدينتها الرئيسة في مرو، وأحيانا نصيبها في جنوب تركمانستان، المعروفة باسم مارغيانا.
(٦) صغديا، وهي ما وراء النهر حاليًّا، تقع بين نهريْ شيحون وسيحون، مع مراكزها الرئيسة، وتمتد تقريبًا من الغرب حتى الشرق في: بخارى وسمرقند وطشقند وفرغانة.
(٧) ليس هناك اسم محدَّد لهذه المنطقة، لكنها مع مركزها الرئيس في سُياب شمال بحيرة إيسيك كول.
(٨) ليس هناك اسم محدَّد لهذه المنطقة، لكنها مع دويلات مدن الواحات الرئيسة، على طول ضفَّة حوض تاريم، وتمتدُّ المدن التالية من الغرب إلى الشرق: كاشغار ويركاند وخوتان ونييا. وعلى طول الضفَّة الشمالية تمتدُّ مُدن: كوتشا وقراشاهر وتورفان (كوتشو)، وتمتد مع الطريقيْن اللذيْن يتَّحدان في الشرق عند دونهوانغ،
(٩) جونغاريا، مع المدينة الرئيسة عند منفذها الشرقيِّ عبر جبال تيانشان، من توربان هناك: بشباليق، بالقرب من أورومتشي الحالية.
(١٠) التبت، وعاصمتها في لاسا.
(١١) منغوليا.
رغم أنَّ بعض هذه الأسماء قد تغيّرت عدَّة مرات عبر التاريخ، إلا أنَّنا سنضع أنفسنا ضمن إطار هذه المجموعة الواحدة لتفادي البلبلة. كما أننا سنُشير إلى منطقة جمهوريَّة الصين الشعبية مستثنين قانسو ومنغوليا الداخليّة والمناطق التبتية الإثنيَّة ومنشوريا والمناطق القبلية جنوب التلِّ مثل "الصين الهانيَّة"، والموطن الإثني لشعب الهان. وسنستخدم مصطلح "شمال الهند" للإشارة – بشكلٍ أوليٍّ – إلى سهل الغانج، دون أن يشمل ذلك جمو وكشمير وهيماتشال براديش وبنجاب الهنديّة وراجاستان، أو أيًّا من ولايات جمهورية الصين شرق بنغال الغربيَّة. وبالنسبة لمصطلح "إيران" فإننا نعني المناطق التي تقع حاليًّا ضمن حدود جمهورية إيران الإسلامية. وأمَّا بالنسبة لمصطلح "العرب" فإننا نعني به كلَّ شعب شبه الجزيرة العربيَّة وجنوب العراق.
تركستان الغربيَّة والشرقيَّة
رغم الاختلاف في تاريخ وجود شاكياموني بوذا، إلا أنَّ معظم الباحثين الغربيِّين يُرجِّحون الرأي القائل بأنه عاش بين عاميْ ٥٥٦ و٤٨٦ ق.م. فلقد علَّم – أساسًا – في الجزء المركزي من سهل الغانج في الهند الشرقيَّة، ثم نشر أتباعُه رسالتَه تدريجيًّا في المناطق المحيطة؛ حيث ظهرت المجموعات الرهبانيَّة من الرهبان والراهبات بعد فترة وجيزة. وبهذه الطريقة تطوَّرت البوذية حتى صارت ديانةٍ منظَّمة، تحفظ تعاليم بوذا وتنقلها شفاهيًّا.
وقد انتشرت البوذيّة مبدئيًّا من شمال الهند إلى غندهارا وكشمير في منتصف القرن الثالث ق.م. وذلك بجهود الملك الماروي أشوكا (حَكَم من سنة ٢٧٣ إلى ٢٣٢ ق.م.) وبعد قرنيْن من الزمن حقَّقت البوذية انتشارَها الأول في كلٍّ من تركستان الغربية والشرقية (تركستان)، وذلك عندما امتدَّت من غندهارا إلى باكتريا ومن كشمير إلى خوتان خلال القرن الأول قبل الميلاد، كما أنها كانت قد انتشرت كذلك – في ذلك الوقت – من كشمير إلى جيلجيت، ومن شمال الهند إلى السِّند الحالية وبلوشستان في جنوب باكستان عبرَ شرق إيران، وصولاً إلى بارثيا. واعتمادًا على التواريخ البوذية المعروفة فقد كان هناك تاجران من باكتريا، وهم من تلاميذ شاكياموني بوذا الأساسيِّين. ولكن ليس هناك دليل على أنَّهما أقاما البوذية في وطنهم في تلك المرحلة المبكِّرة.
ومع حلول القرن الأول الميلادي كانت البوذيَّة قد ثبَّتت أقدامها في تركستان الغربيَّة، كما أنها كانت تواصل انتشارها من باكتريا إلى صغديا. وخلال ذلك القرن امتدَّت البوذيَّة كذلك بشكلٍ أكبر على طول الضفَّة الجنوبية من حوض تاريم، مارَّةً من غندهارا وكشمير إلى كاشغار، ومن غندهارا وكشمير وخوتان إلى مملكة كروراينا في نييا. وكانت كرورانيا معزولة في الصحراء في القرن الرابع، ثم انتقل سكانها للعيش في خوتان.
وخلال القرن الثاني الميلادي وصلت البوذية أيضًا إلى شمال ضفة حوض تاريم، ممتدةً من باكتريا إلى شعب توخاريا في كوتشا وتورفان. واعتمادًا على بعض المصادر فقد كان التوخاريون هناك ينحدرون من نسل اليويجي، وهو شعب قوقازيٌّ يتكلم لغةً هندو-أوربية غربية قديمة. وفي القرن الثاني قبل الميلاد هاجرت إحدى مجموعات يويجي – التي عُرفت لاحقًا باسم التوخاريين – غربًا، وسكنت في باكتريا. وبالتالي أصبحت باكتريا الشرقية تُعرف باسم "تخارستان". ولكن – وبصرف النظر عن تقاسمهم المكان نفسه – لم توجَد هناك علاقات سياسية بين التوخاريين في باكتريا الشرقية والتوخاريين كوتشا وتورفان.
كان هناك حضورٌ للثقافة الإيرانية في كثير من المناطق التابعة لتركستان الغربية والشرقية، وعلى وجه الخصوص في باكتريا وصغديا وخوتان وكوتشا، وبالتالي أصبحت البوذية في آسيا الوسطى ذات ملامح زرادشتية، ولكن بدرجات متفاوتة. فقد كانت الزرادشتية هي الديانة القديمة لإيران. ونرى مظاهر هذه الديانة في كل من النموذج البوذي في هينايانا المسمى سارفاستيفادا الذي انتعش في باكتريا وصغديا وكوتشا، والنموذج الآخر للبوذية الذي سيطر على خوتان ويطلق عليه بوذية ماهايانا.
الصين الهانيَّة
حافظ الصينيون الهانيٌّون على حاميات عسكرية في دويلات مدن واحات حوض تاريم من القرن الأول قبل الميلاد، حتى القرن الثاني بعد الميلاد. غير أن البوذية لم تنتشر في الصين الهانيَّة إلا بعد استعادة هذه المستعمَرات استقلالَها.
بدايةً من منتصف القرن الثاني الميلادي وصلت البوذية إلى الصين الهانيَّة من بارثيا، ثم وسَّع الرهبان – لاحقًا – انتشارها في بلاد بوذية أخرى في آسيا الوسطى، وشمال الهند وكشمير كذلك. وقد ساعد رهبان آسيا الوسطى وشمال الهند الآسيويين الأوسطيين أنفسهم الذي فضلوا في البداية هذه النماذج الهندية الأصلية لمصلحتهم الشخصية. ومع احتكاكهم المستمر بالعربات الدولية التي تزورهم على طول طريق الحرير لم يجد معظمهم مشكلةً مع اللغات الأجنبية. ولكن أثناء عمل ترجمتهم للصينيين الهانييين لم ينقل الآسيويون الأوسطيون أبدًا عناصر زرادشتية، غير أن البوذية التي ينتمي إليها الصينيون الهانيون رحَّبَت بالكثير من الخصائص الثقافية الطاوية والكنفشيوسية.
خلال فترة السلالات الحاكمة الست (٢٢٠ – ٥٨٩ م)، انقسمت الصين الهانية إلى عدة ممالك قصيرة الأمد، مجزأة تقريبًا بين الشمال والجنوب. وهذه السلالات الحاكمة المتعاقبة التي لم تكن في الغالب صينية هانية – وهم الأسلاف الأولون للأتراك التبتيين والمنغول والمانشو – قد غزت الشمال وحكمته، في حين حافظ الجنوب على حضارةٍ صينيةٍ هانية تقليدية بصورة أكبر، وكانت البوذية في الشمال موجهةً بإخلاص نحو نزوات السلطة الحاكمة، في حين أنها في الجنوب كانت مستقلة ومشددة على الطلب الفلسفي.
نتيجةً لتأثير غيرة الكهنة الطاويين والكنفشيوسيين في دعم الحكومة للأديرة البوذية عانت الديانة الهندية من الاضطهاد في مملكتيْن من الممالك الصينية بين عاميْ ٥٧٤ و٥٧٩ م. لكن ويندي – الذي أعاد توحيد الصين الهانية بعد ثلاثة قرون ونصف من التشتت، وأوجَد سلالة أخرى للحكم غير السلالة الحاكمة – أعلنَ نفسه إمبراطورًا كونيًّا بوذيًّا. من خلال إعلانه أن هذا القانون (٥٨٩ – ٦٠٥ م) سيحول الصين إلى جنة "أرض نقية" تدينُ بالبوذية، وأعاد إحياء العقيدة الهندية بمستويات جديدة، رغم أن العديد من الأباطرة الأولين لسلالة تانج الحاكمة (٦١٨ – ٩٠٦ م) فضلوا الطاوية، إلا أنهم تابعوا كذلك دعمهم للبوذية.
الإمبراطوريتان التركيتان الشرقية والغربية
منذ بداية القرن الخامس حكم شعب الرون-روان إمبراطورية مترامية الأطراف، مركزها في منغوليا، وتمتد من كوتشا حتى حدود كوريا، وقد اعتمدوا على خليط من النماذج البوذية والتوخارينية المتأثرة بإيران، وقدموها إلى منغوليا. أما الأتراك القدامى – الذين يعيشون في قانسو ضمن الحدود الرون-روانية – فقد أسقطوا الأخيرة عام ٥٥١ م. وقد انقسمت الإمبراطورية التركية القديمة إلى قسميْن: شرقي وغربي. وذلك خلال سنتيْن.
حكم الأتراك الشرقيون منغوليا، واستمروا في اعتماد النموذج الخوتاني/التوخاريني من البوذية الذي وُجدَ هناك، ودمجوا معه عناصر صينية هانية شمالية، وترجموا العديد من النصوص البوذية إلى اللغة التركية القديمة من مختلف الألسن البوذية بمساعدة رهبان من شمال الهند: غندهارا، والصين الهانية، ولكن بشكلٍ خاص من المجتمع الصغدياني في تورفان. وبصفتهم التجار الأساسيين على طريق الحرير فقد خرج من الصغديانيبن رهبانٌ كانوا يتكلمون لغات متعددة بصورةٍ طبيعية.
إن ما كان يميز البوذية التركية القديمة بشكلٍ أساسي هو مخاطبتها لعامة الشعب؛ حيث أدخلت ضمن حاشية بوذا الكثير من الآلهة الشعبية المعبودة محليًّا، بما في ذلك كل من الآلهة: الشامانية والتنغرية والزرادشتية. فقد كانت التنغرية هي الديانة التي دانت بها شعوب البوادي المغولية قبل البوذية.
حكم الأتراك الغربيون في البداية جونغاريا وشمال تركستان الغربية عام ٥٦٠ م، ثم استولوا على الجزء الغربي من طريق الحرير من أيدي الهون البيض (الهياطلة)، وهاجروا تدريجيًّا إلى كاشغار وصغديا وباكتريا؛ وذلك ليؤسسوا حضورًا ملحوظًا في غندهارا الأفغانية. وأثناء توسعهم اعتنق الكثير من شعبهم البوذية بنماذجه التي وُجدت في المناطق التي احتلوها على وجه الخصوص.
حالة البوذية في تركستان الغربية عند وفود الأتراك الغربيين
طوال قرونٍ سبقت هجرة الأتراك الغربيين كانت البوذية آخذةً بالازدهار في مركز تركستان الغربية وجنوبها، في ظل الحُكم المتعاقب لليونانيين-الباكتريايين والشاكيين والكوشانيين والساسانيين الفُرس والهون البيض. وقد كتبَ الحاج الصيني الهاني إلى الهند فاشيان، الذي ارتحل في هذه المنطقة بين عاميْ ٣٩٩ م و٤١٥ م، أن تلك المنطقة كانت مليئة بالأديرة النشِطة، ولكن عندما وصل الأتراك الغربيون إلى هذه المنطقة بعد قرنٍ ونصف وجدوا أن البوذية في حالة مستضعَفة، خاصةً في صغديا، ويبدو أن البوذية قد انحسرت خلال فترة حكم الهون البيض.
فقد كان الهون البيض عامة يدعمون البوذية بشكلٍ ثابت. ففي عام ٤٦٠ م، على سبيل المثال، أرسل حاكمهم خرقة من ثوب بوذا بوصفها قطعة أثرية من كاشغار إلى إحدى البلاطات الصينية الشمالية. ولكن في عام ٥١٥ م حرَّض ملك الهون البيض ميهيراكولا على اضطهاد البوذية، وذلك – على ما يبدو – تحت تأثيرٍ من المذهبيْنِ المنافسين: المانوية والمسيحية النسطورية في بلاطه، وكان الضرر الأكثر سوءًا في غندهارا وكشمير والجزء الغربي من شمال الهند، إلا أنه امتد كذلك حتى طال باكتريا وصغديا لكن بدرجة أقل.
وفى عام ٦٣٠ م تقريبًا عندما زار الحاج الصيني الهاني البارز التالي إلى الهند شوانزانغ سمرقندَ، وهي العاصمة التركية الغربية في صغديا، وجد أن أتباع الزرادشتية المحليين يعادون البوذية، وذلك رغم وجود العديد من أتباع البوذية العَلمانيين. كان الديران البوذيان الرئيسان خاوييْن ومغلقيْن. لكن في عام ٦٢٢ م، وقبل عدة سنواتٍ من زيارة شوانزانغ إلى سمرقند، اعتنق حاكمها التركي الغربي تونغشيهو خاقان البوذية بصورة رسمية تحت إرشاد براباكاراميترا الراهب الزائر من شمال الهند، وشجع شوانزانغ الملك على إعادة فتح الأديرة المهجورة قرب المدينة، وبناء المزيد منها كذلك.
اتبع الملك وخلفاؤه نصيحة الراهب الصيني، وبنوا عدة أديرة جديدة في صغديا، ليس في سمرقند فحسب، وإنما في وادي فرغانة وغرب طاجيكستان الحالية كذلك. إضافةً إلى أنهم نشروا نماذج مختلطة من بوذية صغديا وكاشغار في شمال تركستان الغربية، وبنوا هناك أديرة جديدة في وادي نهر طلاس في جنوب كازاخستان الحالية ووادي نهر تشو في قرغيزستان، وفي سيميريتشية في جنوب شرق كازاخستان قرب ألماأتي الحالية.
وعلى النقيض من صغديا كتب شوانزانغ عن ازدهار كثير من الأديرة البوذية في كاشغار وباكتريا، وهما المنطقتان الرئيستان اللتان يحكمها الأتراك الغربيون. وتحتوي كاشغار على مئات الأديرة وعشرة آلاف راهب، في حين كان العدد في باكتريا أقل. كان دير نافا فيهارا أضخم ديرٍ في المنطقة كلها، ومقره بلخ المدينة الرئيسة في باكتريا، حيث اعتُبرَ مركزًا رئيسًا للدراسات البوذية العُليا لكل آسيا الوسطى، إلى جانب أديرةٍ فرعية في باكتريا وبارثيا، التي سُمِّيت كذلك أديرة نافا فيهارا.
بما أن إدارته شبيهة بإدارة الجامعة لم يقبل دير نافا فيهارا إلا الرهبان الذين قدموا أبحاثًا من قبل، وقد ذاع صيته نتيجةً لما يحتويه من تماثيل لبوذا تسلُب اللُّبَّ بجمالها، مكسوة بأثواب حريرية فاخرة، ومزينة بزخارف بهية من المجوهرات الكثيرة، وحسب التقاليد الزرادشتية المحلية كان الدير يتمتع بعلاقات مقربة، بشكلٍ خاص، مع خوتان، التي أرسل إليها الكثير من المعلمين. وبحسب شوانزانغ كانت خوتان تحتوي في تلك الفترة على مئة دير وخمسة آلاف راهب.
تراجع الأتراك الغربيين
ومع حلول منتصف القرن السابع بدأ حكم الأتراك الغربيين لهذه المناطق في تركستان الغربية والشرقية بالاضمحلال؛ حيث خسر الأتراك بدايةً باكتريا من الشاهيين الأتراك، وهم شعب بوذي تركي آخر، كان قد حكم غندهارا. وقد وجد شوانزانغ أن حالة البوذية في غندهارا أسوأ مما كانت عليه في باكتريا، بصرف النظر عن كون الأتراك الغربيين قد بنوا دير كابيشا فيها عام ٥١٩ م، وهو لا يبعُد عن شمال كابول، والدير الرئيس على الجانب التابع لكابُول من ممر خيبر ناغارا فيهارا، وهو جنوب جلال أباد الحالية، وقد حوى رفات جمجمة بوذا، وكان من أقدس مواقع الحجيج في العالم البوذي، لكن رهبانه أصبحوا ماديين، وباتوا يطلبون عملة ذهبية واحدة من كل حاج لمشاهدة الرفات. وفي الوقت ذاته لم تكن هناك مراكز للدراسة في المنطقة بأسرها.
أما على الجانب البنجابي فقد حافظ الرهبان على القواعد الرهبانية من الانضباط فقط، ونادرًا ما يتمتعون بأي فَهمٍ للتعاليم البوذية. في وادي سوات (أوديانا) – على سبيل المثال – وجد شوانزانغ الكثير من الأديرة قد دُمِّرَت، أما بالنسبة لتلك التي كانت لا تزال قائمة فقد مارس الرهبان الطقوس لاكتساب الحماية والقوى من الكائنات العلوية، ولم يعد هناك أي تقليدٍ للدراسة أو التأمل.
زار أحد الرحَّالة الصينيين الهانيين واسمه سونغيون سوات عام ٥٢٠ م بعد خمس سنوات من اضطهاد ميهيراكولا. وكتب عن الأديرة أنها كانت لا تزال مزدهرة في ذلك الوقت. فإن حاكم الهون البيض لم يطبق بشكل كبير سياسته المناهضة للبوذية في المناطق البعيدة عن مملكته. فكان الانحسار اللاحق للأديرة في سوات نتيجةً لعدة هزات أرضية وفيضانات عنيفة حدثت خلال القرن الذي فصل بين زيارتَي الحاجَّيْن الصينييْن. ومع إفقار الوادي الجبلي، وقَطْع الطريق التجاري من جيلجيت إلى تركستان الشرقية خسرت الأديرة تقريبًا كل دعمها المادي، وعلاقتها مع الثقافات البوذية الأخرى. وحينها اختلطت الاعتقادات الخيالية المحلية والمُمارَسات الشامانية مع ما تبقى من الفهم البوذي.
في عام ٦٥٠ م تقلصت رقعة الإمبراطورية التركية الغربية أكثر فأكثر؛ إذ خضعت كاشغار للصينيين الهانيين، الذين كانوا يوسعون إمبراطوريتهم منذ تأسيس سلالة التانغ الحاكمة عام ٦١٨ م. وقبل فرض سيطرتها على كاشغار انتزعت قوات تانغ منغوليا من الأتراك الشرقيين، وبعدها دويلات المدن، إلى جانب الضفة الشمالية من حوض تاريم. ومع التهديد المتزايد من الهانيين، وعدم قدرة الأتراك الغربيين الضعفاء عن الدفاع عنها، استسلمت مدينتيْ كاشغار وخوتان المستقلة على الضفة الجنوبية دون قتال.
التبت
خلال الربع الثاني من القرن السابع وحَّد التبتيُّون دولتهم؛ حيث أسس الملك سونغتسين-غامبو (حَكَم من سنة ٦١٧ إلى ٦٤٩ م) إمبراطوريةً امتدت من شمال بورما إلى حدود الصين الهانية وخوتان، وضمَّت نيبال دولةً تابعة لها، وكانت في ذلك الوقت محدودة ضمن وادي كاتماندو. بعد تأسيس إمبراطوريته قدم سونغتسين-غامبو البوذية إلى دولته في نهاية عام ٦٤٠ م. غير أن ذلك كان بصورة محدودة جدًّا؛ إذ اختلطت وجهات نظر متعددة من الصين الهانية ونيبال وخوتان. ومع توسيع التبتيين لمنطقتهم استولوا على كاشغار من الصين التانغية عام ٦٦٣ م، وأسسوا في السنة نفسها مملكتهم في جيلجيت ومضيق واخان الذي يصل بين غرب التبت وشرق باكتريا.
الهند الغانجية
تعايشت البوذية بانسجام مع الهندوسية والجاينية في سهل الغانج التابع لشرق الهند في العصور القديمة. ومنذ القرن الرابع الميلادي اعتبر الهندوس بوذا أحد التجليات العشرة لإلههم الأعلى فيشنو. وعلى المستوى الشعبي رأى الكثير من الهندوس في بوذا نموذجًا آخر من دياناتهم الخاصة. فتولَّى أباطرة الفترة الغوبتية الأولى (٣٢٠ – ٥٠٠ م) حماية المعابد والأديرة والمعلِّمين من كِلا المعتقَديْن بشكلٍ مستمر. وبنوا عددًا كبيرًا من الجامعات الرهبانية البوذية، في الوقت الذي ازدهرت فيه المناظرات الفلسفية. وكانت أشهر تلك الجامعات هي نالاندا في وسط بيهار الحالية. كما أنهم أجازوا للدول البوذية الدخول إلى مواقع الحجيج ضمن مملكتهم. وسمح الإمبراطور سامودراغوبتا – على سبيل المثال – لملك سريلانكا ميغافانا (حكم من سنة ٣٦٢ إلى ٤٠٩ م) ببناء دير الماهابودي في فاجراسانا (بود غايا الحالية)، وهو المكان الذي نال بوذا التنوير فيه.
حكم الهون البيض غندهارا والجزء الغربي من شمال الهند نحو ستة قرون كاملة. وقد امتد تدمير ميهيراكولا للأديرة حتى كوشامبي – على بعد مسافة قصيرة غربَ الله أباد الحالية في أوتر براديش – ومع بداية الفترة الغوبتية الثانية (أواخر القرن السادس – ٧٥٠ م)، جاهد الأباطرة في إصلاح الأضرار التي لحقت بالأديرة، غيرَ أن شوانزانغ استمر في العثور على أديرة مُدمرة غربًا من كوشامبي أثناء زيارته، وذلك في الوقت الذي لا تزال الأديرة الموجودة في ماجدا شرقًا، مثل نالاندا وماهابودي مزدهرةً.
احتفظ الإمبراطور هارشا (حكم من سنة ٦٠٦ إلى ٦٤٧ م) أقوى أنصار البوذية في الفترة الغوبتية بألف راهبٍ من نالاندا في بلاطه الملكي. فلقد كان يبجِّل البوذية ليصل بها إلى مستوًى عالٍ، لدرجةٍ جعلته – كما ذكرت المصادر – يلمس قدميْ شوانزانغ حسب التقليد الهندوسي مبالغة في إظهار الاحترام، وذلك عندما قابله لأول مرة مع الراهب الصيني الهاني.
وفي عام ٦٤٧ م أطاح أرجونا الوزيرُ المناهض للبوذية بهارشا، واستولى على حُكم غوبتا. وعندما أساء معاملة أحد الحجاج الصينيين الهانيين، وهو وانغ شوانتسي، وقتل معظم مجموعته وسلبَها، هرب الراهب الذي كان كذلك رسولَ الإمبراطور التانغي تايزونغ (حكم من سنة ٦٢٧ إلى ٦٥٠ م) إلى نيبال، وهناك طلب المساعدة من الإمبراطور التبتي سونغتسين-غامبو، الذي كان قد تزوج عام ٦٤١ م من ابنة الإمبراطور التانغي الأميرة وينتشينغ، فحارب الحاكم التبتي بمساعدة أتباعه النيباليين أرجونا وأطاح به، واسترد غوبتا مرة أخرى، وبهذا ظلت البوذية تمتع بمكانةٍ عظيمة في شمال الهند.
كشمير ونيبال
ازدهرت البوذية في كشمير ونيبال، وفي شمال الهند كذلك، وفي ولايات هندوسية بشكلٍ أساسي. وقد كتب شوانزانغ عن البوذية أنها قد تعافت في كشمير من اضطهاد ميهيراكولا، خاصةً مع دعم مؤسس سلالة كاركوتا الحاكمة الجديدة الحالية (٦٣٠ – ٨٥٦ م).
من جهة أخرى لم تقع نيبال تحت حكم الهون البيض. فقد حافظ حكام سلالة ليتشافي الحاكمة (٣٨٦ – ٧٥٠ م) على دعمهم غير المنقطع للبوذية. وفي عام ٦٤٣ م أطاح الإمبراطور التبتي سونغتسين-غامبو بفيشناغوبتا الغاصب في نظر هذه السلالة الحاكمة، وأعاد الملك ناريندراديفا الذي كان يطالب بعرش نيبال إلى عرشه، وهو الذي كانت لاجئًا في التبت. ولكن هذا لم يكن له أثر كبير على حالة البوذية النيبالية في وادي كاتماندو. وقد تزوج سونغتسين-غامبو لاحقًا الأميرةَ بريكوتي ابنة الملك ناريندراديفا؛ ليعزِّز العلاقات بين البلديْن.
ملخص
إذن كانت البوذية موجودة في كل أقسام آسيا الوسطى تقريبًا عند قدوم العرب المسلمين في منتصف القرن السابع الميلادي. فقد كانت الأقوى في باكتريا وكشمير وحوض تاريم، وكانت مقبولة على المستوى الشعبي، لكنها لم تقبل بشكل كبير في غندهارا ومنغوليا، وكانت قد دخلت التبت حديثًا، وكانت تمر بعملية إحياءٍ مستحدَثة بصغديا. ولكنها لم تكن العقيدة الوحيدة في المنطقة، فقد كانت هناك عقائد زرادشتية وهندوسية ومسيحية نسطورية ويهودية ومانوية، وشامانية وتنغرية، إضافةً إلى عقائد أصلية ولكنها غير منظمة. وكانت البوذية الموجودة في آسيا الوسطى أقوى في الصين الهانية ونيبال وشمال الهند؛ حيث عاش معتنقوها بسلام مع الطاويين والكنفشيوسيين والهندوس والجاينيين.
بعد وصول العرب المسلمين إلى وسط آسيا كان الشاهيون الأتراك يحكمون غندهارا وباكتريا، وفي الوقت الذي كان الأتراك الغربيون يحكمون صغديا وأجزاء من شمال تركستان الغربية احتفظ التبتيون بجيلجيت وكاشغار، في حين حكمت الصين التانغية ما تبقى من حوض تاريم، إضافةً إلى منغوليا. وكان أتراك منغوليا الشرقيون معلقين مؤقتًا خلال فترة انتقالية قصيرة لحُكم الصينيين الهانيين.