الحقائق الأربع النبيلة في لغتنا اليومية
كم هي كبيرة سعادتي لكَوْني هنا في زالابا مرة أخرى، وقد طُلِب مني أن يكون موضوع حديثي هذا المساء عن الكارما: (العواقب الأخلاقية لأخلاق المرء). وإذا أردنا أن ندرس أي موضوع في البوذية فإنه من المهم أن يكون لدينا فكرة عن سبب دراستنا لهذا الموضوع، وما أهميته؟ وكيف يتوافق مع السياق الكلي للبوذية؟
كان بوذا يتحدث بصفة أساسية عن تجربة كل فرد، وما نمر به في حياتنا، وما الذي يحدث، وما الشيء الأكثر أهمية الذي نمر به جميعًا؟ أحيانًا نكون سعداءَ، وأحيانًا أخرى نكون تعساء، وهذه الطريقة هي التي نعيش بها حياتنا، أليس كذلك؟
عندما نختبر ذلك الموقف في بعض الأوقات التي نشعر فيها بالحزن، وبعض الأوقات التي نشعر فيها بالسعادة، نكتشف أن هناك الكثير من المشاكل المرتبطة به، فعندما نكون غير سعداء نكون في معاناة واضحة، ولا يحب أي منا أن يكون تعيسًا، أليس كذلك؟ قد نشعر بالحزن عند حدوث بعض الأمور؛ مثل صديق يبتعد عنا، أو عند سماع أمور معينة؛ كالكلمات غير السارة، أو عندما نفكر في أشياء مختلفة بعواطف مختلفة، ولكننا نشعر بالتعاسة، ولا يبدو أن لهذا الشعور أية علاقة من أي نوع بما نراه أو نسمعه في الواقع، أو ما يحدث من حولنا، وهذه مشكلة، أليس كذلك؟
ولكن ماذا عن السعادة؟ نشعر في بعض الأحيان بالسعادة، أليس كذلك؟ فنحن نشعر بالسعادة عند رؤية أو سماع أمور؛ مثل سماع شيء محبب إلينا، ويمكن أن تحس بالسعادة عند التفكير في شيء ما؛ مثل تذكر وقت رائع قضيناه مع أحد ما، ولكننا عندما ننظر بعمق أكثر نجد أن هذه السعادة التي نمر بها تشوبها بعض المشاكل المتصلة بها:
أولها: أنها لا تدوم أبدًا، وثانيها: لا نعرف إلى متى ستستمر. وثالثها: لا تبدو أنها بالقدر الكافي أبدًا. فربما نكون سعداء عند تناول ملعقة من طعام، ولكن هذا لا يكفي، فنحن نحتاج إلى تناول المزيد والمزيد من هذا الطعام. في الواقع هناك سؤال مثير جدًّا، وهو: ما مقدار الشيء الذي يجب أن نأكله لكي نستمتع به حقًّا؟ فَكِّر في هذا السؤال. وهناك عيب آخر؛ هناك نقص في هذه السعادة، وهو أننا لا نعلم ماذا سيأتي بعدُ؟ قد نكون سعداء في اللحظة القادمة، وقد نكون تعساء، وقد تتغير هذه السعادة، ولهذا لا أمان فيها.
إن هذا النوع من بُعد النظر والتحليل في السعادة والتعاسة ليس فريدًا من نوعه في البوذية، في الواقع فقد لاحظ العديد من المفكرين في هذا العالم هذا الأمر، وعلموه طلابهم، ولكن ما عَلَّمه بوذا وما فَهِمه كان مشكلة من نوع أكثر عمقًا أو معاناة. فقد نظر بوذا بطريقة أكثر عمقًا لهذا الموقف المتقلِّب من الحياة اليومية، الذي تتقلب فيه السعادة والتعاسة، وقد أدرك أن سبب حدوث هذا كان في الواقع جزءًا من كل لحظة نمر بها. وبمعنى آخر فإن الطريقة التي نجرب بها الأشياء مع تقلبات السعادة والتعاسة تجدد من ذلك الموقف غير المرضي.
إذن نظر بوذا بعد ذلك، وأدرك ماهية هذا السبب الموجود في كل لحظة، الذي كان يجدد من هذا الموقف غير المرضي، وأدرك أنه كان الحيرة بشأن الواقع، أي الحيرة بشأن كيفية وجودنا، وكيفية وجود كل شيء من حولنا، وكيفية وجود العالم.
ويختلف هذا إلى حدٍّ ما عما قاله الكثيرون من قبل، فقد قال البعض – مثلاً – : إن تقلُّب السعادة والتعاسة التي نمر بها يحدث أساسًا بسبب الثواب والعقاب؛ من اتِّباع القوانين أو عدمه. وأن السبب الرئيس للشعور بالسعادة أو التعاسة هو الطاعة حسَب رأي الكثير من المعلمين، ولكن بوذا قال: "لا، ليست هذه هي القضية، إن السبب الرئيس هو الحيرة، وليس مسألة الطاعة أو العصيان. إن السبب هو كونك متحيرًا بشأن الحياة".
بعد ذلك استمر بوذا في بيان أن هذه الحيرة لم تكن جزءًا متممًا وضروريًّا للحياة، أو كيف نجرب الأشياء، فلم يكن هناك داعٍ لوجودها، ويمكن إزالتها وإقصائها تمامًا حتى لا تعود مرة أخرى. وحينئذٍ قال: إن الطريقة الحقيقية لفعل هذا هو أن نغير من طريقتنا في تجريب الأشياء، ولم يكن التخلص من هذه الحيرة أمرًا نطلبه من شخص آخر، ولكنها في الأساس مسألة تغيير لاتجاهاتنا الخاصة وفهمنا للواقع. إذا كنا نستطيع أن نستبدل سوء الفهم بالفهم، وبعد ذلك يكون لدينا هذا الفهم طوال الوقت، عندئذٍ نكتشف ذلكم الثابت المتأرجح للسعادة والتعاسة، ولذا فإن هذا هو أحد التعاليم الجوهرية لبوذا، الذي وضعه في أول كل لغة نستخدمها في حياتنا اليومية.
تناول الكارما للسبب السلوكي ونتيجته
عندما نتحدث عن الكارما فإنها التفسير الأساسي لكيفية حدوث تقلبنا في الشعور بالسعادة والتعاسة وسببه، وهذا هو محور اهتمام الكارما. بمعنى آخر: كيف تسبب حيرتنا هذا التأرجح بين السعادة والتعاسة، وبين الخبرات السارة والخبرات المكدرة؟
بمعنى آخر: إنها تتعامل مع السبب والنتيجة، وهما هنا موضوع في غاية التعقيد، كما يقول بوذا: "لا يملأ الدلو القطرة الأولى، ولا تملؤه القطرة الأخيرة، ولكنه يمتلئ بمجموعة كاملة من القطرات". وبطريقة مماثلة فإن ما نمر به في حياتنا ليس شيئًا واحدًا، فعلناه الآن، أو فعلناه منذ وقت طويل، بل هو نتيجة لكمية ضخمة من العوامل والشروط السببية.
ويمتاز هذا الأمر بالثبات النسبي في الواقع من وجهة النظر العلمية؛ لأن ما يقال هو أن الأحداث لا يجري بعضها بمعزل عن بعض، وأن لكل شيء علاقة تربطه بالآخر. ولنضرب مثالاً بسيطًا فحسب: إننا لم نكن لنستطع أن نوجد في هذه القاعة الآن نستمع إلى هذه المحاضرة لو لم يأت الأسبان إلى الأمريكيين، أليس كذلك؟ وهذا أحد أسباب وجودنا هنا، وبالمثل فهناك عدة أسباب مختلفة مباشرة وغير مباشرة تسهم فيما نمر به الآن، أو في أي وقت.
ومع ذلك تفسر الكارما الأسباب التي تتصل – بصفة أساسية – بعقولنا، ولكن هناك أسباب أخرى كثيرة تساهم فيما نمر به؛ أسباب فيزيائية – كالطقس مثلاً – وهكذا. والعديد من الأشياء التي تؤثر علينا لا تأتي من عقولنا فقط، ولكن من عقول الآخرين أيضًا؛ كالسياسيين الذين يقررون سياسات مختلفة تؤثر علينا، ويمكن أن تشوبها بعض الحيرة أيضًا، أليس كذلك؟
لا تتحدث الكارما عن الإيمان، ولا تتحدث عن القدر والجَبْر، أو أشياء من هذا القبيل، ولكنها بدلاً من ذلك تتحدث عن كيفية تجربتنا للأشياء، وكيف تؤثر ميولنا على ما نمر به في الحياة. فكلمة "الكارما" تستخدم بمعنى عام جدًّا، لكي تشير إلى كل شيء تضمنه الحديث هنا حَسَب السبب السلوكي وأثره. وبمعنى آخر: علاقة السبب والنتيجة التي تنشأ من سلوكنا ومواقفنا، ويمكن أن تشير الكارما إلى موضوع السبب السلوكي ونتيجته كلية بصفة عامة، أو يمكن أن تشير – بطريقة أكثر تحديدًا – إلى جانب واحد من العملية الكلية. لهذا إذا أردنا أن نفهم آلية الكارما ببعض التفصيل يجب علينا أن ننظر إليها بدقة أكثر قليلاً.
الطرق المتعددة لتفسير الكارما
عندما بدأنا قي النظر إلى أكثر التفسيرات دقةً في البوذية، سرعان ما اكتشفنا أنه لا يوجد تفسير واحد فقط، ويجد الغربيون هذا مزعجًا قليلاً. ولكن عندما يكون لدينا مشكلة أو موقف ما فإننا نستطيع أن نفسره بطرق مختلفة متعددة، معتمدين في ذلك على وجهة نظرنا. وكذلك نفعل في الغرب؛ فيمكننا تفسير الأشياء من وجهة نظر اجتماعية، ومن وجهة نظر نفسية، ومن وجهة نظر اقتصادية، وليس في هذا ما يدهشنا. وهذه الشروح المتنوعة تساعدنا في الفهم بطريقة أكثر شمولية، وكل طريقة من طرق تفسير ما يحدث تقوم على أساس معين من الفكر؛ أساس اقتصادي أو سياسي أو نفسي وهكذا.
ولدينا ما يماثل هذا في البوذية، ولذلك نجد أنه يوجد الكثير من التفاسير للأنظمة العقائدية المختلفة لطريقة عمل الكارما، ولدينا هذا أيضًا في الغرب، حتى في فرع واحد من الفروع؛ مثل علم النفس، فيمكن أن يكون هناك تفسير من وجهة نظر علم النفس الفرويدي، وتفسير آخر من وجهة نظر علم النفس لكارل جونغ. ويمكن للمرء أن يفسر الأشياء تبعًا للطريقة الاشتراكية، أو الطريقة الرأسمالية، ونجد هذا في البوذية، وهذا يساعدنا في الواقع على النظر إلى العديد من هذه الأنظمة؛ لأنها تتيح لنا الكثير من التحليلات المختلفة لكيفية عمل الكارما، وليس من الضروري التعمق في تفاصيل الفروق بين هذه النظم، ولكنه من النافع لنا أن نَعِيَ أن هناك العديد من الأنظمة، وهذا يعني ضمنًا أننا نستطيع أن يكون لدينا مثل هذه الأنظمة الغربية، التي تفسر ما الذي يحدث، مع ما نمر به من خبرات أيضًا، ولا يتعارض هذا بالضرورة مع ما تنصُّ عليه الكارما.
الكارما بوصفها عاملاً عقليًّا للدافع
تشير الكارما نفسها – عندما نتحدث عنها على أنها مصطلح معين وشيء محدد – إلى عامل عقلي – إذا اتبعنا نظامًا واحدًا في التفسير – ولكن ما المقصود بالعامل العقلي؟ إنه الطريقة التي يكون بها المرء مدركًا لشيء ما. ولنضرب مثالاً على ذلك: نرى شخصًا ما، ونمشي في اتجاهه، هناك العديد من العوامل العقلية المتضمَّنة في هذه الخبرة، وهذه جوانب مختلفة من الكيفية التي ندرك بها هذا الشخص، وبعض هذه الجوانب جوانب أساسية جدًّا؛ مثل تمييز هذا الشخص عن غيره، أو عن الحائط. والاهتمام – الذي هو طريقة إدراكك للشخص، التي تصاحب رؤية هذا الشخص – وقد يكون هناك التركيز أيضًا، والعديد من العواطف. كل هذه العوامل عوامل عقلية، وهي تتشابك معًا أثناء اللحظة التي نرى فيها هذا الشخص، ونمشي في اتجاهه.
ولكن أي العوامل العقلية تكون الكارما؟ إنها العامل العقلي الذي يشدنا تجاه هذا الشخص، إنها الدافع الذي يصاحب رؤيتنا لهذا الشخص، والذهاب إليه بعد ذلك. ولهذا السبب فُسِّرت الكارما في بعض النظريات على أنها قوة مادية تقريبًا. يمكن بالطبع أن تكون هناك عوامل عقلية أخرى مثل النية؛ ما الذي ننوي أن نفعله مع هذا الشخص؟ ربما ننوي معانقته، وربما ننوي أن نلطم وجهه. وهناك العديد من العوامل الأخرى المتضمنة، ولكن الكارما هي ببساطة ذلك الدافع للقوة العقلية الذي يدفعنا إلى هذا الفعل، سواء أكان العناق أم اللطم عند رؤية الشخص، والذهاب إليه.
علينا أن نتذكر أيضًا أن هذه الدوافع العقلية ليست مجرد أفعال مادية – مثل العناق أو اللطم – ويمكن أن يكون هناك دافع عقلي مُحرِّك، ويمكننا عن طريق هذا الدافع أن نفكر في شيء ما، ولا يكون هذا فقط على شاكلة قول شيء ما بطريقة مادية أو فعله، وسواء كنا نفكر في شيء ما أم كنا نقول شيئًا ما، أم كنا نفعل شيئًا ما بطريقة مادية، فإن كل هذه الأشياء تتضمن نوعًا من الدافع العقلي.
تأثير سلوك الكارما
تعتمد البوذية كثيرًا جدًّا في تعليمها – مثلها مثل العلم – على لغة السبب والنتيجة، ولذلك إذا كنا تحت تأثير الكارما – هذا الدافع – فإننا نفعل الأشياء ونقولها ونفكر فيها، وحينئذٍ سيكون هناك نتيجة. لا تتحدث الكارما كثيرًا عن تأثير سلوكنا على الآخرين – على الرغم من أن لهذا السلوك تأثيرًا على الآخرين بالطبع – وهذا بسبب أن ما نفعله للآخرين يكون تأثيره عليهم في الحقيقة راجعًا إلى الشخص الآخر إلى حد كبير.
فبعض التأثيرات الواقعة على الآخرين بسبب ما نفعله لهم ترجع إلى عوامل مادية، فعند ضرب شخصٍ ما يصاب بالكدمات، وهذا بالضبط سببٌ مادي ونتيجته، ولكننا لا نتحدث عن هذا في الكارما، إننا نقصد الأثر الذي نحدثه على الشخص الآخر طبقًا للخبرة التي يمر بها، عندما نقول أو نفعل له شيئًا ما، فمَردُّ هذا الأمر إلى الشخص نفسه، أليس كذلك؟ فقد نقول شيئًا قاسيًا جدًّا لشخص ما – على سبيل المثال – وتتأذى مشاعره جدًّا، وقد ينزعج بصورة كبيرة، ولكنه ربما يعتقد أننا حمقى أغبياء، ولذلك لا يصدقنا، أو يأخذ ما نقوله على محمل الجد، أو ربما لا يكاد يسمعنا، أو أنه قد يسمعنا بطريقة غير صحيحة، وربما يكون عقله منشغلاً بشيء آخر مثلاً.
لذلك، حتى إذا كان لدينا النوايا السيئة فلن نؤذي مشاعر هذا الشخص حقًّا، فليس هناك ما يضمن أن هذا سيحدث في الواقع، على الرغم من أن البوذية تعلمنا بوضوح ألاَّ نحاول أن نؤذي أي أحد، ولكن هذا لا يتضمن الكارما هنا.
عندما نتحدث عن نتائج الكارما لشيء ما فإننا نقصد النتائج التي سنمر بها بأنفسنا، نتيجةً لتصرفنا بهذه الطريقة الجبرية المتهورة بهذه الدوافع الكارمية. فما الآثار الحادثة على أنفسنا؟ أحد هذه الآثار – وهذا مشابه لما سيقوله علماء الغرب – هو أننا سنُكيِّف أنفسنا على التفكير بطريقة معينة، والتحدث بطريقة معينة، والتصرف بطريقة معينة. ولذلك فإنها تبني مَيْلاً إلى تَكرار هذه الطريقة من السلوك، ونتيجةً لهذا الميل إلى تكرار هذا الفعل، والقدرة الكامنة على تكرار هذا الفعل أيضًا، فإننا نصنع بعض الاختلاف بين القدرات الكامنة والميول، وليس هناك أية حاجة إلى أن نتعمق في تفاصيل هذا. ونتيجةً لهم سنريد أن نكرر هذا الفعل.
ما الذي يُولِّد هذا الميل أو القوة الكامنة؟ في الواقع تنتج هذه القدرة إحساسًا ما، مثل أن: أذهب إليك وأعانقك، أو أن أذهب إليك وأقول لك شيئًا بذيئًا، وحينئذٍ عندما نشعر بالرغبة في فعل هذا يكون لدينا بالطبع الاختيار في أن نفعل هذا أو لا نفعله، وهذه نقطة مهمة جِدًّا؛ أن يكون لدينا الاختيار فعلاً في أن نفعل ما نريد أو لا، ولكن إذا قررنا أننا سنفعله، أو إذا لم نفكر حتى فيما إذا كنا سنفعل هذا أو لا، ونفعله فحسب، فحينئذ تأتي الكارما في المرحلة التالية، إنها هي الدافع والمحرك والقوة الجبرية التي بها نفعل الأشياء في الواقع.
إذن هناك الكثير من الأشياء الأخرى التي تنضج من هذه الميول، وأحد هذه الأشياء – بصفة أساسية – محتوى ما نمر به. والمحتوى كلمة كبيرة أعتقد أنه يجب أن تكون أكثر تحديدًا، إنها تختص هنا – على سبيل المثال – بمقابلة هذا الشخص، وعدم مقابلة ذلك الشخص. إنها تتضمن الطريقة التي يتصرف بها الناس تجاهنا، وعلينا أن نكون حريصين على الكيفية التي نقول بها هذا؛ لكي نكون أكثر دقة.
إن الكارما لدينا لا تتسبب في أن يرفع الشخص الآخر صوته في وجوهنا، فالآخرون يرفعون أصواتهم في وجوهنا نتيجةً لميولهم، التي تضطرهم إلى أن يفعلوا ذلك في الناس. ولكن الكارما مسئولة عن مرورنا بخبرات مع الآخرين، وهم يرفعون أصواتهم أمامنا.
وليس هذا هو أسهل الأشياء لفهمها بالطبع، ولكن أعتقد أن المثال التالي هو أقرب الطرق لنقترب من فهمه: إذا كان هناك طفل رضيع يلبس كافولة، ثم اتسخت بسببه، فإن عليه أن يتعايش مع هذا، عليه أن يتعايش مع الفوضى التي أحدثها. دعونا نُنَحِّ جانبًا القضية كلها – سواء أكان هناك شخص ما سيغير الحفاض للطفل أم لا – ولكن النقطة الرئيسة هنا هي أنك تخلق الفوضى، وعليك أن تمر بخبرة هذه الفوضى.
إننا نصنع الفوضى في الحياة، وبينما تستمر الحياة ندخل في المزيد من الفوضى، وهي تعمل أساسًا بنفس الطريقة. وبشكل أكثر تحديدًا نتصرف تجاه الآخرين بطريقة معينة، وسنمر بخبرات مع آخرين يتصرفون معنا بالطريقة نفسها، ولكن هناك مبدأ آخر غاية في الأهمية هنا في الكارما؛ وهو أن هذا لا يعمل في الحال، فربما نتكلم بأسلوب طيب لطيف مع الآخرين، في الوقت الذي يكونون معنا فيه غاضبين وأصواتهم عالية.
ولهذا فإنه لكي نفهم الكارما فهمًا صحيحًا فعلينا أن نحضر كل المناقشات للولادة الجديدة، وأن نعلم أن الأشياء تستغرق وقتًا طويلاً جدًّا قبل أن تُحْدِث تأثيرًا، وأنها ربما لا تحدث تأثيرها في فترة حياتها – حقيقةً لا يكون لها تأثير في معظم الأوقات – وليس من السهل لنا – نحن الغربيين – أن نقبل هذا بسهولة. بالنسبة لبعض الناس تبدو البوذية لهم كأنها تقول: "كن طيبًا في حياتك، وسترى نتائج ذلك في الجنة في الآخرة، وكن شريرًا وسترى النتائج في الجحيم".
إن علينا أن نجرب هذا بطريقة أكثر قربًا، هل تقول البوذية الشيء نفسه، أم إنها تقول شيئًا مختلفًا؟ ليس هذا بالموضوع السهل، إنه موضوع معقد جدًّا؛ لأنه لكي نفهم حقًّا سبب الكارما ونتيجته فنحن نحتاج إلى أن نفهم الولادة الجديدة طبقا للمصطلح البوذي للولادة الجديدة، وليس طبقًا للمصطلحات غير البوذية لها.
من ذا الذي يقترف سببًا للكارما، ومن ذا الذي يمر بالنتيجة لهذا السبب؟ هل هناك "أنا" يمكن أن يُكافَأ أو يُعاقَب؟
ولكن لِننحِّ جانبًا قضية الولادة الجديدة، ومن الذي سيمر بتجربتها. فكما ذكرت في البداية أن البوذية لا تتحدث عن نظام الثواب والعقاب القائم على طاعة القانون، ولا تقول البوذية: إن هذه الحياة ما هي إلا نوع من الامتحان، وإننا سنحصل على نتائج هذا الامتحان في حياتنا الأخرى. إنما تقول ببساطة: إن الأشياء تستغرق وقتًا طويلاً لكي تنتج تأثيرها. ويمكن أن نقول هذا بلغة البيئة: إننا نتصرف بطريقة معينة، وهذه الطريقة ينتج عنها بعض النتائج في حياتنا، ولكنها ستؤدي إلى الكثير من الآثار الكثيرة الضخمة في حياة أجيال المستقبل. إنها شيء مشابه لهذا.
السعادة والتعاسة
تنضج الكارما ببُعْدٍ مختلف تمامًا، بمعنى آخر: ببُعْدٍ آخر تنشأ من خلال نتائجه هذه التصرفات الكارمية، التي تتعلق بما كنا نتحدث عنه في بداية المحاضرة، ألا وهو بُعد السعيد والتعيس. عند تكرار أفعال معينة نجرب أشياء معينة تحدث لنا – يتصرف الناس تجاهنا بطرق معينة، أو ربما تسقط صخرة من أعلى قمة منحدر فوق رءوسنا – نجرب مع هذه الأشياء السعادة أو التعاسة. فَكِّر بهذا، هناك بعض الناس عندما يدوسون على صرصور بأقدامهم يكونوا سعداء جدًّا – قائلين: ها قد نلتُ من هذا الشيء الفظيع" – بينما هناك آخرون عندما يفعلون هذا يشعرون بأنهم في غاية الحزن والاشمئزاز. هناك بعض الناس عندما يتعرضون للضرب، أو عندما يصيح أحد ما في وجوههم، يشعرون بقمة التعاسة والحزن، والبعض الآخر عندما يتعرضون لشيء كهذا فإنهم يشعرون بالسعادة، قائلين: "نعم، أنا مخطئ، أنا سيئ، أنا لست صالحًا، أستحقُّ أن أُضْرَب وأن يُصرَخ في وجهي".
تعرفون هذا المثل – أعتقد أن أصله مكسيكي، أو أن أحدًا قد اخترع قصته، وأنا أصدق هذه القصة – إنه يقول: "إذا كان زوجي يضربني فهذا يعني أنه يحبني حقًّا، وإذا كان لا يضربني فهذا معناه أنه لا يهتم".
ذلك السعيد والتعيس يبدو أنهما بُعْدَيْنِ من نوع مختلف تمامًا، أليس كذلك؟ إن ما يحدث لنا طِبقًا لأحد الأبعاد هو ما نفعله بطريقة قهرية نتيجةً للتكرار، وما نمر به من خبرات. والأشياء التي تحدث لنا – هذا بعد واحد – والبعد الآخر هو كيف نمر بهذه الخبرات في الواقع، بالسعادة أو التعاسة. هذه الأشياء التي نمر بها، وهذان البعدان ينضجان كلاهما من تصرفات كارمية في الماضي، ولكن من تصرفات مختلفة.
فإذا نظرنا إلى بُعْد السعيد والتعيس – هذا بُعدٌ عام جدًّا – فإننا نجده ينشأ نتيجةً لتصرفاتنا البناءة، أو تصرفاتنا الهدامة. فإذا كنا نتصرف بطريقة بناءة فنتيجته أن نمر بخبرة السعادة، وإذا كنا نتصرف بطريقة هدامة فسوف تكون نتيجته أن نمر بالتعاسة.
السلوك البناء والسلوك الهدام
إنه لمن الشيق جدًّا الآن أن نتقصى ما تعنيه البوذية بالسلوك البنَّاء والسلوك الهدَّام. ويوجد العديد من التفاسير التي تكفي بصورة طبيعية، ولكنه – كما رأينا – لا يمكننا أن نحدد حقًّا طبيعة التصرف حسَب الأثر الذي يحدثه على الشخص الآخر؛ لأنه لا أحد يعرف كيف سيكون هذا الأثر. هناك العديد من العوامل الأخرى التي سيتضمنها هذا الأمر، لذلك يتعلق السلوك البناء والهدام بحالة العقل التي نتصرف بها. فإذا كان تصرفنا قائمًا على الطمع، أو التعلق، أو الغضب، أو مجرد السذاجة الكاملة، فهو سلوك هدَّام. ومن ناحية أخرى إذا لم يكن تصرفنا قائما على الغضب، أو على الطمع، أو التعلق، أو السذاجة، فحينئذ يكون سلوكًا بناءً. وبوضوح أكثر إذا ذهبنا لأبعد من هذا؛ إذا كان التصرف مبنيًّا على الحب أو العطف أو الكرم... إلخ، فإنه يكون سلوكًا بناءً أيضًا.
يوجد أيضًا العديد من العوامل الأخرى، ومن الشيق هنا أن نختبر هذه العوامل التي تجعل التصرف تصرفا هدَّامًا أو بناءً. أحد هذه العوامل هو: كرامة النفس الأخلاقية، التي تتعلق بالصورة التي نكونها عن النفس، وعن احترامنا لذاتنا. فإذا لم يكن لدينا احترام لأنفسنا فحينئذٍ لا نكترث بالأثر الذي يُحدِثه سلوكنا على أنفسنا، إنه الموقف المتخَذ تجاه أي شيء "مهما يكن". بهذا النوع من احترام الذات المنخفض نتصرف بطريقة هدامة. بمعنى آخر: إذا كنتُ أفكر في نفسي بطرق إيجابية، إذا كان لدي احترام لنفسي لكوني إنسانًا، إذن فلن أتصرف كالأبله، ولن أتصرف بطريقة قاسية غبية؛ لأنني لا أريد أن أقلل من شأن نفسي، وأتصرف بهذه الطريقة، فلي نظرة أعلى كثيرًا لنفسي، وفيما أستطيع أن أفعله. هذا هو العامل الذي نتحدث عنه هنا؛ إما أن يكون لديك إحساسٌ بكرامة الذات الأخلاقية، أو لا يكون لديك إحساس بمثل هذه الكرامة.
وهذا عامل حاسم جدًّا، يحدد: هل كنا نتصرف بطريقة بناءة أم بطريقة هدامة؟
وهناك عامل آخر؛ وهو الاهتمام بالكيفية التي ينعكس بها سلوكنا على الآخرين. ما الذي نتحدث عنه هنا؟ إذا كنتُ أتصرف بطريقة فظيعة فكيف سينعكس ذلك على أسرتي؟ كيف ينعكس هذا على بلدتي؟ إذا كنتُ أتصرف بطريقة فظيعة فكيف سينظر الناس إلى شعبي (المكسيكيين)؟ إذا كنا بوذيين، وإذا كنت أخرج، وأشرب الخمر وأتشاجر، فكيف سينعكس هذا على البوذية والبوذيين؟
لأن لدينا ما يكفي من الاحترام لأسرتنا والجماعة التي ننتمي إليها أيًّا كانت – دين أو بلد أو مدينة – بهذا الإحساس بالاهتمام بالأثر الذي يحدثه سلوكنا، وباهتمامنا بالطريقة التي يؤثر بها سلوكنا على الآخرين، إذا كنا نمتلك هذا فسنحجم عن التصرف بطريقة هدامة. وإذا لم يكن لدينا هذا فسوف نتصرف بطريقة هدامة.
وهذا بعد نظر عميق إلى أبعد الحدود في البوذية، ما العامل الفاصل؟ إنه تقديرنا للذات، وكرامة النفس، والإحساس بتقدير المجتمع لنا. وهذا يعطينا فهمًا أكبر لبعضٍ من العوامل التي نحتاج أن نأخذها في الاعتبار في التعامل مع الإرهاب.
إذا حرمتَ فردًا ما وجماعته من كل إحساس بكرامة الذات، جاعلاً من حياتهم حياة فظيعة حقًّا، وفكرت في أبشع الأمور لهم، فإنهم لن يبالوا بأي فعل، إذا لم يكن لديهم أي إحساس بتقدير الذات، أو تقدير جماعتهم، وعندئذ ما المانع من خروجهم وأن يصبحوا هدَّامين؟ إنهم يشعرون أنه لا يوجد شيء ليخسروه. أعتقد أن هذا شيء مفيدٌ لكي نتذكره في كيفية التعامل مع الآخرين، خاصة في المواقف المتأزمة في العالم. من المهم ألاَّ نحرم أحدًا من إحساسه بكرامة النفس، أو الإحساس بتقدير جماعته.
هذه هي بعض العوامل العقلية المتضمنة هنا، مع ما يجعل التصرف بناءً أو هدامًا. وهناك أيضًا أشياء أخرى، مثل أن نأخذ على محمل الجد حقيقة أن الطريقة التي نتصرف بها ونسلكها تجاه الآخرين سيكون لها تأثيرٌ عليهم. ويشير هذا إلى امتلاك إحساسٍ بالاعتبار أو الاهتمام – أنا أطلق عليه: "نزعة الاهتمام" – ولكن في بعض الأحيان نكون في غاية السذاجة، فنعتقد أنه يمكننا أن نقول أي شيء، ولا نهتم. فأنا لا آخُذ مشاعرك على محمل الجد حقًّا، وعندئذ تنقصنا "نزعة الاهتمام".
إذا كنا نتصرف وهذه الأنماط من العوامل العقلية؛ مثل: الطمع والغضب وعدم الإحساس بتقدير الذات، وعدم الاعتبار للطريقة التي ينعكس بها ما نفعله على الآخرين، وعدم الاهتمام، وألاَّ نأخذ على محمل الجد حقيقة أن ما نفعله سيكون له تأثير على الآخرين، وكذلك على أنفسنا، إذا كنا نتصرف بها فما نتيجة هذا كله؟ النتيجة هي التعاسة، ومع هذا فإن هذه التعاسة ليست عقابًا.
إننا بحاجة إلى أن نفكر بعمق أكبر في هذا: هل يمكن لهذه الحالة العقلية مع كل هذه العوامل السلبية أن تكون حقًّا حالةً عقلية سعيدة؟ وهل يمكن حقًّا أن ينتج عنها خبرة السعادة فينا، أم أنها يمكن أن تعطينا التعاسة فقط؟
إذا أَوْلَيْنا هذه الحالة المزيد من التفكير فإنها تعني في الواقع أن هذه الحالة العقلية – السلبية – سوف يكون من نتائجها مرورنا بخبرة التعاسة، وإذا كان نقيض هذه الحالة – بدون طمع أو غضب أو كل هذه الأشياء – فإن ذلك سيقدم لنا السعادة. ولهذا لدينا هذه التصنيفات العامة من السلوك – البنَّاء والهدام – وسينتج عن هذه التصنيفات مرورنا بخبرات السعادة أو التعاسة.
إضافة إلى ذلك يكون لدينا مجموعة من التصرفات التي تَصدر مِنَّا، منها: الصراخ في وجه شخص ما، أو أن نكون ودودين مع شخص ما، وهكذا. وهذه التصرفات أيضًا لها تأثيرها على رغبتنا في تكرار هذا السلوك، وكذلك رغبتنا في أن نتصرف مع الآخرين بالطريقة نفسها التي تصرفوا معنا بها في مواقف ما.
وهناك نتيجة أخرى لسلوكنا الكارمي – ولكن لا داعي للدخول في تفاصيل كثيرة هنا – فيما يتعلق بالسؤال التالي: أي نوع من الولادة الجديدة نحظى به؟ هل سنولد من جديد بجسم وعقل أَولي لكلب أو صرصور أو إنسان؟ وما نوع الجسم والعقل اللذين سيكونان لدينا – بوصفهما سياقًا – للمرور بخبرات أشياء معينة تحدث لنا، ولتصرفنا بطريقة معينة؟ هناك الكثير من التفاصيل الأخرى هنا، ولكني أريد أن أغطي أكثر المبادئ عمومًا فقط في هذه المحاضرة الافتتاحية.
الحتمية والإرادة الحرة
إذن نمر بأنماط معينة من السلوك المتكرر، والأشياء التي تحدث لنا من ناحية، ويصاحب ذلك تقلُّب للسعادة والتعاسة من جانب آخر، والتي تتفق في بعض الأحيان مع سلوكنا، ويبدو أنها لا توافقه على الإطلاق في أحيان أخرى. ويتوالى حدوث هذا ذهابًا وإيابًا طوال الوقت، ولا نعرف ما الذي سيأتي بعد.
وبالطبع فإن ما يحدث لنا لا يكون سببه الكارما الخاصة بنا، بل هو يتأثر أيضًا بما يحدث مع كل فرد آخر في الكون، والكارما الخاصة به، وما يفعلونه، إضافة إلى ما يحدث في الكون المادي نفسه – عناصر الكون: الطقس والزلازل وأشياء من هذا القبيل – ولذا فإنه من الصعب جدًّا أن نتنبأ بما سنمر به بعد؛ حيث إن العوامل التي تؤثر في هذا شديدة التعقيد، وفي الحقيقة يقول بوذا: "إن أشد الأمور تعقيدًا في أي شيء هو أن تفهم".
ويجب أن نكون أكثر وضوحًا هنا؛ لأن هناك الكثير ممن يسألون عن هذا في الكارما قائلين: هل هي الحتمية، أم أن لدينا إرادة حرة؟ وليس أيٌّ منهما صحيحًا، فكلاهما مُغالًى فيه، فالحتمية تعني أن شخصًا آخر قد حدد لنا ما الذي سنفعله، أو ما الذي سنمر به ونجربه – كائن ما خارجي، أو كائن علوي، أو أي شيء – تقول البوذية: ليست هذه هي القضية، فليس هناك شخصٌ آخر قد قرر ما الذي سنفعله، وأننا مجرد دُمًى تمثل مسرحية ما، قد كتبها لنا شخص آخر.
والإرادة الحرة – على الجانب الآخر – تشبه إلى حد ما شخص ما يجلس في مطعم، ممسكًا بقائمة الطعام أمامه، ويقرر ما الذي سيطلبه. ليست الحياة بهذه الصورة، تقول البوذية: تصور الحياة على هذا النحو خطأ تمامًا، فالحياة شيء محيرٌ، فقد تبدو كأن هناك "أنا" منفصلة؛ منفصلة عن الحياة، أو منفصلة عن الخبرة، وهي التي يمكن – باستثناء كل ما يحدث – أن تنظر إلى الحياة مثل قائمة طعام نختار منها ما نشاء من بنود. لا توجد "أنا" منفصلة عن الحياة، أو منفصلة عن الخبرة، وما سيحدث لنا لا يوجد كبنود في قائمة، يمكن أن نختار منها، كما لو كانوا قابعين هناك بالفعل، وحينئذ ما علينا إلا أن نضغط زِرًّا، ويخرجوا من آلة البيع، أو أي شيء من هذا القبيل.
أعتقد أن هذه صورة نافعة لكي نرى مدى حمقها، فالخبرات التي نمر بها لا توجد مثل قوالب الحلوى داخل آلة البيع، نختار منها ما نشاء: اضغطِ الزر، ثم ضَعِ النقود، وبعدها تخرج إليك. ليست الحياة بهذا الشكل، أليس كذلك؟ إننا لا نقرر سلفًا ما الذي سيحدث، كأن تقول: "اليوم سأكون سعيدًا، وسيكون الجميع لطفاء معي". بعد ذلك نضع نقودنا في آلة الحياة، وبعدها يخرج علينا ما اخترناه. هذه هي الإرادة الحرة، أليس كذلك؟ إنها إرادة حرة لنقرر ما الذي سيحدث لنا، وما الذي سنفعله، ولكن ما يحدث لنا أدق كثيرًا، وأكثر تعقيدًا من طَرَفي النقيض هذين: الحتمية والإرادة الحرة.
الخبرة مصدرًا للكارما
قلنا في وقت باكر من المحاضرة: إن ما كان مميزًا إلى حدٍّ ما في البوذية هو أن بوذا عَلِم السبب لهذا الثابت، للتقلب في مرورنا بالسعادة والتعاسة، ولكل أنواع الأشياء التي تحدث لنا، التي لا نريدها أن تحدث حقًّا، والتي لا يكون لنا عليها أي سيطرة. إن السبب هو جزء من كل لحظة من خبرتنا، وهو يجدد كل هذه المتلازمة – وهو الحيرة – ليس هذا فقط، ولكننا عندما نتصرف بِحَيْرَةٍ – سواء أكان هذا التصرف بطريقة بناءة أم هدامة – فإنه يُعزِّز ما يُطْلَق عليه: "العادة الثابتة" – وهو العادة التي بمقتضاها نتصرف بشكل ثابت، ولهذا يستمر تصرفنا بحيرة في كل لحظة واحدة.
ما ماهية هذه الحيرة؟ إن هذا الموضوع عميق جدًّا في البوذية، ولكن عند وَضْعه في مصطلحات بسيطة فسوف يكون ما نتحدث عنه هو الحيرة بشأن كيفية وجودي، وكيفية وجودك أنت، وكيفية وجود الجميع. فمثلاً تعتقد أنك مركز هذا الكون، وأنك أهم شخصية، وأنه يجب ألاَّ يعيق أي أحد نشاطك.
وأنك دائمًا على حق، ويجب على الناس أن يكون لديهم متسع من الوقت لي. يمكننا أن ندرك هذا الموقف بلغة هواتفنا الجوالة: تشعر أنه يجب أن تكون قادرًا على أن تتصل بأي أحد في أي وقت، وتقطع عليه عمله – بغض النظر عن ماهية هذا العمل – ويجب أن يكونوا موجودين في أي وقت أريدهم فيه؛ لأن ما سأقوله أهم بكثير من أي شيء يحتمل أنهم يفعلونه الآن.
وبناءً على هذه الحيرة يمكن أن نتصرف بطريقة هدامة تجاه شخص ما؛ كأن نرفع أصواتنا عليه، أو أن نكون غلاظ الطبع معه؛ نفعل ذلك لأنه لا يريد أن يفعل ما نريد أن يفعله، أو يفعل شيئًا لا نريد منه أنه يفعله. فعلى هذا الشخص أن يفعل ما أريد؛ لأن ما أريد أهم كثيرًا مما يريده. وبناءً على تلك الحيرة ذاتها يمكننا أن نتصرف بشكل لطيف مع شخص ما – كأن نكون طيبين معه – لأني أريده أن يحبني، أريده أن يكون سعيدًا معي، أريد أن أشعر بأهميتي في فعل شيء ما لشخص ما أعتقد أنه يحتاج هذا الشيء، لهذا سأخبر ابنتي كيف تربي أولادها، وكيف تدير منزلها، أليس هذا شيئًا نافعًا؟ وليس من المهم إذا كانت الابنة تريد نصيحتنا ومساعدتنا أم لا. ولكنك تعتقد أنك الشخص الأكثر أهمية، وتريد أن تكون ضروريًّا، وأنك تعرف أفضل من ابنتك كيفية تربية الأطفال، وأنها تحتاج إلى أن تسمع نصيحتك.
إذن توجد هذه الحيرة، وهي من وراء كلٍّ من السلوك الهدام، والسلوك البناء. فهذه الدائرة المتقلبة تتجدد بسبب تلك الحيرة، لذلك علينا أن نجرب كيفية التخلص منها.
تخليص أنفسنا من الحيرة
عندما ننظر إلى آلية كيفية نضوج هذه الميول والعادات الكارمية – وخاصة الميول – حينئذ تتعلق هذه الآلية كلها بميولنا تجاه السعادة والتعاسة المتقلِّبَيْنِ اللتين نمر بهما. وكلٌّ منا لديه عاملان عقليان يصاحبان مرورنا بخبرات السعادة والتعاسة، وهما ذوا مغزى هنا، وهما:
(١) "الاشتياق": عندما نمر بخبرة السعادة فإننا نشتاق – وهذا يعني وجود رغبة قوية لدينا في ألاَّ نُحرَم منها – "لا تذهب بعيدًا، ابقَ هنا معي دائمًا، هل يمكن أن تبقى لفترة أطول؟" مثل هذا النوع من الأشياء عند استمتاعنا بوجودنا مع شخص ما، أو أننا نشعر بالسعادة ونستمتع بها عند أكل كيك الشيكولاتة، ولهذا لا نريد أن نُحرَم من هذه السعادة، لذا نستمر في أكل المزيد والمزيد من الشيكولاتة، أليس كذلك؟ إن هذا هو الاشتياق. وعندما نمر بخبرات التعاسة نشتاق إلى التخلص منها سريعًا قدر الإمكان. (٢) ويقع تحت كلٍّ منهما عامل عقلي ثانٍ – ميل قوي لتحديد "الأنا" الجامد بما نمر به من خبرات. إنني يجب أن أحصل على هذه السعادة، وأيًّا ما كان ما يمنحني المزيد من هذه السعادة، وألاَّ يحرمني شيئًا منها، ويجب أن أنفصل بعيدًا عما لا أحبه، فأنا لا أحب ما تقوله، إذن من الأفضل أن تصمت، أو أنني سأصرخ في وجهك.
عندما نمر بالسعادة أو التعاسة المتقلبين في حياتنا مع هذا الاشتياق، والتعريف القوي للأنا الجامد بما يحدث – والمبني بالتبعية على الحيرة – يتسبب هذا في نضج كل العوامل الكارمية. وبهذه الطريقة نجدد سعادتنا وتعاستنا المتقلبة، ونكرر سلوكياتنا السابقة؛ لأن هذا ما ينضج من هذه الميول، والشيء الفظيع هنا هو أن هذه الحيرة موجودة في كل لحظة من السعادة أو التعاسة، وهي تجدد لحظات أكثر من السعادة أو التعاسة، التي تكون أيضًا مصحوبة بالحيرة، فالحيرة التي لدينا الآن هي نتيجة لحيرتنا من قبل عند مرورنا بخبرات السعادة والتعاسة.
إن هذه الدائرة تتكرر بطريقة لا يمكن التحكم فيها، وتتجدد من تلقاء نفسها – ويطلق على هذا في البوذية "سامسارا" (مصطلح بوذي ينقل كما هو) – إذا استطعنا أن نتخلص من هذه الحيرة فسوف يتهاوى كل نظام الكارما، وسنتحرر من الـ"سامسارا". إذا استبدلنا الحيرة بالفهم الصحيح – ولن أتعمق في تفاصيل معنى هذا، ولكني سأكتفي بمجرد أخذ الفكرة العامة – إذا استبدلنا الحيرة بالفهم الصحيح فلن يكون هناك أساسًا للأنا الجامد، ولن يكون هناك أقوال مثل: "يجب أن أمتلك هذا، ولا أمتلك هذا". وكذلك لن يكون هناك "اشتياق"، لهذا لن يبقى هناك شيءٌ لتنشيط هذه الميول والنزعات، وإذا لم يكن هناك شيءٌ لتنشيط هذه الميول والنزعات والعادات فإنه لا يمكن أن نقول إننا ما زال لدينا هذه الميول والعادات.
سأحاول أن أضرب مثلاً على ذلك: إذا كان لديك ميل إلى رؤية الديناصورات فإذا انقرضت الديناصورات فلن يكون هناك أي ميل بعد الآن لرؤية هذه الديناصورات عندما تمشي في الأدغال، أليس كذلك؟
كان من المعتاد وجود مثل هذا الميل: عندما كنت في الغابة كنت دائمًا أرى الديناصورات، والآن ليس هناك أي ديناصورات، ولهذا لا يوجد أي ميول لرؤيتها. باستخدام هذا المثال عندما لا يكون هناك ما يسبب نضج ميلٍ ما – ديناصور يمشي أمامك مثلاً يتسبب في نضج الميل إلى رؤية الديناصور – إذا لم يوجد هناك شيءٌ لتنشيط هذا الميل فإنه لن يكون لديك هذا الميل بعد الآن، وإذا لم تنضج الميول الكارمية بعد الآن – لأنه ليس هناك أية ميول – فلن نمر بخبرات السعادة والتعاسة المتقلبينِ، وبالتأكيد لن يكون هناك أي حيرة بشأنهما أيضًا، فقد انتهينا من هذا أيضًا.
وهذه هي الطريقة التي بها نتحرر من المواقف السامسارية فلم نعد نمر بخبرات السعادة والتعاسة المتقلبة غير المستقرة، التي لا يرضى بها أحدٌ. ولكننا بدلاً من ذلك يكون لدينا خبرة شديدة الثبات من نوع مختلف جدًّا من السعادة، وبصفات مختلفة جدًّا، ليس نوعًا من السعادة المشوبة بالحيرة، وليس نوعًا من السعادة المبنية على قولك: "لقد فزت باللعبة، ولهذا ها هي مكافأتي". إنها نوع من السعادة التي يمر بها الفرد لكونه قد تحرر من موقف صعب.
وأنا أعتقد أن المثال التالي قد يكون مساعدًا لفهم ما نتكلم عنه: وهي السعادة التي نشعر بها عندما نخلع أحذيتنا الضيقة في نهاية اليوم، إنه إحساس سعيد بالراحة أن نتحرر من آلامنا.
أيضًا ما نمر به مع التحرر هو أن تصرفاتنا لم تعد منقادة بالدوافع القهرية للكارما، التي عن طريقها نتصرف بطريقة معينة، ونمر بخبرات معينة، فضلاً عن ذلك، إذا كنا نعمل – لما وراء مجرد التحرر – لكي نصبح "بوذا" فإن ما يقود تصرفاتنا هو العطف، أي نتمنى للآخرين أن يتحرروا من معاناتهم وأسباب هذه المعاناة.
كلمة الختام
هذه مقدمة أولية لبعض المبادئ التي تتضمنها الكارما، وهناك الكثير والكثير مما يمكن أن يقال أو يُفسَّر، وفسرنا البعض منه ببعض المبادئ العامة؛ مثل هذا النوع من التصرف ينتج عنه هذا النوع من الأثر، وإذا وُجِد هذا العامل فإن النتيجة ستكون أقوى، وإذا لم توجد – إذا كنت تفعل شيئًا مصادفةً بينما يتعارض هذا الشيء مع شيءٍ آخر مقصود – سيكون الأثر مختلفًا، وهكذا. وهناك الكثير من التفاصيل.
ومن الصعب أيضا أن نعمم المبادئ طبقا لما ينضج في الواقع الآن؛ لأنه يتأثر بكل شيء يحدث حولنا. إن ما يحدث لنا الآن لا يمكن تعميمه فقط بمبادئ عامة؛ لأن ما يحدث الآن يتأثر بكل شيء آخر يحدث. أَمْعِنِ التفكير في الحال التالية: إذا أُصبتَ بحادث على الطريق فما الذي تسبب في ذلك؟ إنها الكارما التي أحضرت كل فرد آخر على الطريق من جانبهم، وحالة المرور، والطقس، وحالة الطريق، لهذا تسبب كثير من الأمور في حدوث شيء محدَّد لوقوع الحادث، والذي ينضج (يتطور) الآن. وإذا كنا مهتمين بهذا الموضوع فلدينا وقت كبير لاكتشاف العديد من الجوانب المختلفة له، وأعتقد أنه كلما تعلمنا المزيد عن الكارما فسوف يكون ذلك أكثر نفعًا في التغلب على الوقوع تحت سيطرتها.
لمزيد من الشرح التفصيلي انظر: آلية الكارما، شرح الماهيانا لولا (غيلوغ براسانغيكا).
الأسئلة
كما نرى في هذا السياق فإن الذنب يكون خارجًا عن الصورة، فليس هناك ما يتعلق به هنا، أليس كذلك؟
هذا صحيح، فالتفسير البوذي للكارما لا يتعلق بالذنب؛ فالذنب قائم على التفكير بلغة الأنا الجامد القوي جدًّا ككيان منفصل، وبما فعلناه كبعض الكيانات المنفصلة الأخرى؛ مثل كرتي تنس طاولة، أو شيء من هذا القبيل. وبعد ذلك نعتقد أن هذا الكيان "الأنا" سيئ جدًّا، وأن ذلك الكيان "ما فعلته" كان سيئًا جدًّا، ولهذا يوجد قرار نتخذه لهذين الكيانين الجامدين الظاهرين، وبعد ذلك لا نصرفهم من الذهن، فهذا ذنب، إنه يشبه عدم التخلص من القمامة أبدًا في منزلك، ولكنك مع ذلك تحتفظ بها في الداخل، قائلاً: "يا لها من شيء فظيع، يا لفظاعة رائحتها، يا لقذارتها". ولا تصرفه من ذهنك أبدًا.
أنا الآن أستطيع أن أفهم المنظومة كلها – فهي واضحة ومنطقية – وكذلك كيفية التخلص من الحيرة، وكذلك أفهم الدافع والميول وكل شيء، ولكني أعتقد أنا الفهم وحده ليس كافيا للتخلص من الخبرة التي نمر بها، أو دافع التصرف بطريقة قهرية.
هذا صحيح، ولهذا نحتاج أولاً أن نتدرب على التحكم الأخلاقي في النفس، تذكر أننا ذكرنا أنه يوجد فاصل طفيف بين شعوري بالرغبة في أن أقول:" يا له من قبيح ذلك الفستان الذي ترتدينه اليوم!"، وعندما أقوله فعلاً. إذا استطعنا أن نمسك بهذا الحيز (الفاصل) فسوف نكون قادرين على أن نقرر ما الأثر الذي سينتج إذا أخبرنا هذه الفتاة أنها ترتدي فستان قبيح، وإذا رأينا أن قولنا هذا لن يجدي نفعًا فلن نقوله. ومن هنا نبدأ بالانضباط الأخلاقي والتحكم بالذات.
أيضا يمكننا أن نختبر أي عاطفة يتملكنا عندما نريد أن نفعل شيئًا؟ فهل رغبتنا في فعل شيء ما مبنية على عاطفة مزعجة مثل الطمع؟ وهل هذه الرغبة قائمة على الغضب، أم هل هي مبنية على السذاجة؟ وهل نعتقد أنه عندما نقول: إن فستانك قبيح. فلن يُحدِث ذلك أي أثر على صاحبة هذا الفستان؟ أو أن رغبتنا في فعل شيء ما قائمة على الود، وكل هذه الأشياء الايجابية؟
ولهذا يكون تعريف العواطف المزعجة أو المواقف العقلية المزعجة نافعًا جدًّا: إنه حالة عقلية عندما تنشأ تكون سببا في أن نفقد السلام العقلي، ونفقد التحكم بالذات. يمكن أن تعرف متى تفقد السلام العقلي؛ تعرفه عندما تزداد سرعة دقات القلب قليلاً، ونشعر بشيء من عدم الارتياح. لذلك نحاول أن نلاحظ – على سبيل المثال – أشياء دقيقة، مثل: هل أقول شيئًا بدافع التفاخر؟ كأن يقول شخص مثلاً: "لم أفهم ذلك". وتقول أنت: "أوه، ولكنني فهمت". سوف تلاحظ القليل من عدم الارتياح، وأن هناك بعضًا من التفاخر والتكبر وراء ذلك، ولهذا فإن ذلك هو ما تبحث عنه.
ولكن لِنفهمِ الواقع، الذي يعني أن نكسب فَهْم الخواء، وما إلى ذلك، فهذا موضوع صعب جدًّا، وحتى عندما نصل إلى هذا الفهم يجب أن نُعوِّد أنفسنا عليه ليكون لدينا هذا الفهم طوال الوقت، ولهذا نبدأ بالانضباط النفسي الأخلاقي؛ لكي نمنع أنفسنا من التصرف بطريقة هدامة.
أنا تائه قليلاً، أعتقد أنك ذكرت أن هناك نوعان من العواطف يُجدِّدان السعادة والتعاسة المتقلبين، فهل كنت تقول: إن أحد هذين العواطف هو الاشتياق؟ وما العاطفة الآخر؟
ما كنت أشرحه هما العاملان اللذان ينشطان الميول الكارمية – وهذا ينشأ من التعاليم في الروابط الاثنتي عشرة لالناشئة بشكل تابع – أحد هذين العاملين هو: الاشتياق، والآخر – وكنتُ أُبسِّطه – يُسمَّى في الواقع: "عاطفة أو المواقف الذي يحصل". وهو قائمة من خمسة احتمالات مختلفة، وهذا هو ما سيؤدي إلى النتيجة، ولذلك فأكثر الاحتمالات وضوحًا هو تحديد الأنا الجامد، بما نمر به من خبرات، وبما يحدث.
هل هذا يحدد الأنا الجامد بالعلاقة مع شيء ما؟ من الواضح وجود الحيرة هنا، وأنه علينا أن نهتم بهذا، ونتخلص من الحيرة. فما الشيء الذي يحيرنا بالضبط؟ وما الشيء الذي يحيرنا معه (يجعلنا محتارين بينهما)؟
ليس من السهل أن نجيب على هذا السؤال ببساطة، فنحن نخلط بين أمر الأنا الموجود بالفعل – الأنا الاصطلاحي – مع الأنا الزائف الذي لا يوجد. إن ما نفعله هو أننا نتصور أن الأنا الفعلي الموجود يوجد بطريقة مستحيلة، وهذه مبالغة؛ فالأنا يضيف شيئًا ليس موجودًا. فعلى سبيل المثال: أنا سعيد، أو أنا تعيس. لستَ أنت التعيس. وعندما توجد خبرة السعادة أو التعاسة نشير إلى ذلك بلغة: "أنا سعيد". فلست أنت السعيدَ، أو أي شخص آخر. أنا سعيد، إن هذا الأنا أو "نفسي" هو الأنا الاصطلاحي الموجود فعلاً.
اسمح لي أن استخدم مثالاً لهذا الأنا الاصطلاحي: افترضْ أننا نشاهد فيلمًا، وليكن هذا الفيلم هو: "ذهب مع الريح"، يوجد في هذا الفيلم مشهد سعيد، وبعده مشهد غير سعيد، وبعد ذلك مشهد سعيد. فما الذي يحدث هنا؟ إن هذا المشهد السعيد هو مشهد من الفيلم: "ذهب مع الريح"، والمشهد غير السعيد هو مشهد آخر من الفيلم نفسه. إن "ذهب مع الريح" هو الطريقة التي نسمي بها الشيء كله بطريقة اصطلاحية، وكل المشاهد السعيدة وغير السعيدة. إن فيلم "ذهب مع الريح" مع هذا هو مجرد عنوان – اسم فحسب – ولكن عند التحدث عن "ذهب مع الريح" فإننا لا نتحدث عن مجرد العنوان، إننا نتكلم عن الفيلم الفعلي، وهو ما يشير إليه العنوان. وهذا هو الفيلم الموجود اصطلاحًا: إنه موجود، وليس الفيلم شيئًا منفصلاً عن كل هذه المشاهد. فالفيلم المنفصل والمستقل عن هذه المشاهد سيكون فيلمًا زائفًا، فهو ليس موجودًا، والفيلم الموجود اصطلاحًا هو وحده الذي يمكن تسميته ووصفه على أساس هذه المشاهد.
وبطريقة مماثلة يكون لدينا لحظات سعيدة في حياتنا، ويكون لدينا لحظات تعيسة في حياتنا وهكذا. كيف نشير إلى هذه اللحظات كلها؟ إننا نشير إليها بـ"الأنا" – الأنا الاصطلاحي الذي يوجد فعلاً – إنه ليس أنت، إنه أنا. وبطريقة مشابهة ذلك الفيلم "ذهب مع الريح" ليس "حرب الكواكب". ولكنه ليس هناك "أنا" منفصلاً عن اللحظات التي نمر فيها بالسعادة أو التعاسة، سيكون هذا "أنا" زائفًا، "أنا" ليس موجودًا. و"الأنا" إنما هي مجرد كلمة، ولذلك فالأنا هو ما تشير إليه هذه الكلمة فقط، على أساس من كل اللحظات التي نمر بها في الحياة.
عندئذ تقع الحيرة عندما تعتقد أن هناك أنا منفصلاً، وهو الذي يوجد داخل هذا الجسم، ويسكن فيه، ويرتبط به بطريقة ما، ويضغط الأزرار (لإعطاء الأوامر). والآن يمر هذا الأنا بخبرة ألم في قدمي، وأنا تعيس، ولا أحب هذا. إنها شيءٌ كما لو كان هناك أنا منفصلٌ عن الخبرة التي تمر بها كلها داخل هذا الشيء الغريب الذي يسمى الجسم، وحينئذ فإننا نشعر "بالاشتياق" على أساس من الحيرة بين هذا الأنا الزائف والأنا الاصطلاحي وتعريفه بهذا الأنا الزائف، ونشعر أنه يجب علي أن أنفصل عن هذه التعاسة وعن هذا الألم، اللذين أَمُرُّ بهما مع هذا الألم الجسدي.
وبالطبع عندما لا يكون لدينا فهم مغلوط "للأنا" الجامد فهذا لا يعني أننا نجلس هناك فحسب ويستمر أَلَمُنا. إذا كانت إحدى أقدامنا في النار فإننا نخرجها من النار بالطبع، ولكن مفهوم الأنا الذي وراء هذا يختلف إلى حد ما، فليس هناك ذعر، ولكن هذا المفهوم للأنا الزائف في مقابل الأنا الاصطلاحي هو غاية في التعقيد والتقدم، لذلك دعونا نتركه الآن جانبًا، ونتوقف عند هذا الحد هذا المساء. نعتقد أنه أيًّا ما كان الفهم، وأيًّا ما كانت القوة الايجابية الناشئة عن هذا، فربما نتعمق أكثر وأكثر، ونصبح أكثر قوة، وتعمل هذه القوة لتكون سببًا للوصول إلى التنوير لصالح الجميع.