ما الذات في الديانات المختلفة؟

ملاحظات تمهيدية

حينما نتحدث عن الأديان، أو عن الروحانية بوجهٍ عام، فمن الأهمية بمكان أن نُظهِر احترامًا لكل التقاليد المختلفة، لذلك فمن المهمِّ أيضًا أن نعرف جوهر هذه الأديان ونُقَيِّمه؛ لكي نتذوق قيمتَها، فهذا جزء من قيمة تدعيم التجانس الديني.

في حوار الأديان هناك دومًا ثلاثة أسئلة: "من أنا؟" أو "ما النفسُ؟" و"هذه الأنا أو الذات من أين أتت؟" و"هل هناك بداية أم لا؟ وماذا سيحدث بعد ذلك، هل هناك نهاية أم لا؟" كل الأديان الرئيسة تحاول الإجابةَ على هذه الأسئلة الثلاث.

ما النفسُ؟

بالنسبة للسؤال الأول، وهو: "ما النفس، أو الأنا؟" بعض الناس البُسطاء يعبدون أرواحًا محليةً، لذا فلا يهمهم كثيرًا هذه الأسئلة الثلاثة، فحينما تحدث مأساةٌ فإنهم يتوجهون بالدعاء لإلهٍ محليٍّ. لكن بالنسبة للأديان الرئيسة، فهناك البعض الذين استقصوا هذه الأسئلة الثلاثة حتى قبل البوذية بثلاثة آلاف عامٍ. ولقد التقيتُ مؤخرًا بباحثٍ من جامعةٍ مصريةٍ، وأخبرني أن الحضارة المصرية القديمة، منذ خمسة آلاف سنة، قد طوَّرت هي أيضًا فلسفةً دينيةً، ومفاهيمَ عن الحياة الآخرة. لذا فإن هذه الأسئلة ترجع إلى الماضي البعيد جدًّا.

والآن، فلكي نجيب على سؤال: "ما النفسُ؟" سواءً كنا نتحدث عن دينٍ توحيدي، أم غير توحيدي، فكلاهما يستطيعان الحديث عن النفس؛ من حيث كونها مستقلةً عن الجسد، وأنها "تملكُ" هذا الجسد، فهي مستقلةٌ عن مجموعِ الجسد والعقل. إنهم يؤكدون على وجود نفسٍ تتميز بالاستقلالية وعدم التجزيء والبساطة، ومن المحتمل أن مفهومَنا عن الروح الذي نجده في العديد من الأديان له هذه المظاهر الثلاثة.

البوذية هي الديانة الوحيدة التي تقول بعدم وجود نفس مستقلة عن مجموع الجسد والعقل، فالبوذية بوجهٍ عام تتحدث عن العَرَضية (عدم الديمومة) والمعاناة والتجرُّد وإنكار الذات، هذه هي [جزءٌ من] السمات الأربع المميزة للدارما، أو أربع نقاط للحكم على مدى اعتماد أي توجه على خطاب بوذا الباعث على التنوير، في مقابل كونه رؤيةً غير بوذية.

[التجرد والخواء – أي انعدام النفس المستحيلة بالكلية – وهو يشكل السمة الثالثة من السمات الأربع المميزة]. هذه الأربع هي ظواهر مشروطة[متأثرة]، وهي: غير دائمة [غير ساكن]؛ الظواهر الملوثة هي المعاناة أو تتضمن المعاناة، وكل الظواهر متجردة [وتفتقد روحًا أو نفسًا مستحيلة] ؛ والنيرفانا هي السلام [تهدئة المعاناة]. لذلك، فهاتان إجابتان أساسيتان للسؤال: "ما النفس؟" – [فإما أن تكون هناك نفسٌ مستقلةٌ عن الجسد والعقل، أو لا وجودَ لمثل هذه النفس.]

هل للنفس بداية؟

عندئذٍ يأتي هذا السؤال: "هل للنفس بداية؟" البعض يقول: إن النفسَ تنشأ من غير سببٍ على أساس التكتلات، إذن هي تلقائية، حتى فيما يتعلق بأصل الكونِ. فيقولون: إنه ينشأ من العدم، ولا يوجد سبب. هذا هو موقف العلم في الحقيقة. وفي الهند هناك الموقف المادي للتشارفاكا الذي يؤكد هذا الكلام، لكن الآخرين يقولون: إنه ينبغي وجود سبب وشرط؛ لأن تعبير "بلا سبب" تعبيرٌ غير مريح.

حينما تقول المدرسة الهندية للفلسفة السامكيا: إن الكون يأتي من مادة أولية دائمة – ما يسمونه براكريتي بمكوناتها الكونية الثلاثة؛ الغونات الثلاثة – فإن هذا هو سبب كَوْنه ساكنًا أو دائمًا. لكن الآخرين، وهم أتباع الإله الخالق إيشفارا، على سبيل المثال، يؤكدون على أن الكونَ يأتي من خلال إرادة كائنٍ سامٍ.كل الأديان الإيمانية لها رؤية متشابهة: اليهودية والنصرانية والإسلام، جميعها تقول بخلق الله للنفس [الروح]، لذا فإن مفهومَ الخَلْق هو إجابتُهم على السؤال: "من أين أتيتُ؟"

والآن، داخل الأديان الإيمانية هناك وجهتا نظر:

الأولى: هي أن هناك حياة واحدة [على هذه الأرض]، هي هذه الحياة، هذه وجهة نظر النصرانية، على سبيل المثال.

الثانية: هي أن هناك حيواتٍ عديدة وتناسخ، وهذه وجهة النظر الهندية. لذا، فمن وجهة النظر الهندية فقد خلق إيشفارا أو براهما الروح بحيواتٍ عديدةٍ، وكل حياةٍ لها شكلٌ متغيِّر بدرجة يسيرةٍ بسبب الكارما، ولهذا تَقْبَل هذه المواقف الهندية كُلاًّ من الخالق والسببية. وتتحدث النصرانية فقط عن هذه الحياة، وأن الذي خلقها هو الله. وأنا أشعر أنها فكرة قوية ومُعِينة جدًّا؛ فالاعتقاد في ذلك يُوجِد شعورًا بالحميمية نحو الله، وهناك إمكانيةٌ أكبر لاتِّباع إرادة الله ومحبته ومساعدة الكائنات البشرية.

ذات مرةٍ، عندما زرت جالية إسلامية في لداخ على مقربة شديدة من حدود باكستان، أخبرني أحد أصدقائي المسلمين، وهو إمام مسلم محلي، أن المسلم الحق ينبغي أن يبسط الحب ليشمل كل مخلوقات الله، كما يحب الله. وهذا يشبه وجهة النظر البوذية من محبة كل الكائنات الواعية.

ومع هذا فهناك مجموعةٌ أو أديان أخرى تشمل الغينيين والبوذيين وجزءًا من السامكهياس، الذين لا يقبلون بفكرة الخالق، ويقولون: إن كل شيء حادث يُعزَى [ببساطةٍ] إلى الأسباب والظروف.

لذا فلدينا نظرة إيمانية، ونظرة غير إيمانية، فيما يتعلق بسؤال: من أين تأتي "الأنا"، وهنا فالموقف غير الإيماني هو موقف الجاينيين والبوذيين وجزء من السامكيين. فمن وجهة نظرهم ليس هناك بداية، لكن يوجد قانون السببية فقط.

والآن أنا لا أعرف الإجابةَ الدقيقةَ للسامكيا هنا، فإذا كان للمادة الأولية اضطرابات مستمرة فذلك لأن كلاًّ من المادة الأولية والنفس هي حقائق مطلقة، والظواهر الطبيعية الثلاث والعشرون الأخرى التي يتحدثون عنها إنما هي انفعالات المادة الأولية، والنفس تَعْرِف المادة الأولية، إذن السؤال هو: "هل تنتج النفسُ عن المادة الأولية كشيءٍ ما يظهر منها، أم هي منفصلةٌ تمامًا؟" في الواقع أظن أنهم يقولون: إنهما منفصلتان تمامًا، لكن ما العلاقة بالتحديد؟

وعلى الناحية الأخرى تنبذ البوذيةُ فكرةَ النفس المستقلة؛ أي النفس التي توجد مستقلة ليس عن الكون فقط، لكن أيضًا عن مجموع الجسد والعقل. وبدلاً من ذلك تقول البوذيةُ: إن النفس [التي توجد بطريقة تقليدية، مجرد "الأنا"] هي شيءٌ ما يعتمد على التكتلات؛ أي تعتمد على الجسد والعقل.

وبالنسبة لأصلها فإن مسألة بداية النفس تقودنا إلى مسألة بداية مسار التكتلات؛ وذلك لأن النفسَ يمكن وجودها وفهمها فقط في علاقتها مع التكتلات، أو اعتمادها عليها. وفيما يتعلق بذلك بوجهٍ عام فلكلٍّ منا جسدٌ وعقلٌ، ولأن الأساس لتسمية النفس هو أصلاً مسار النشاط العقلي [الفردي] أو الإدراك، فإن السؤال هو: "هل هناك بداية لمسار النشاط العقلي[الفردي]؟"

والآن، وبالنظر إلى الظواهر الطبيعية الخارجية، هناك أسبابٌ ذائعة، وفي الوقت نفسه هناك ظروف العمل؛ فالسبب الذائع هو الذي منه يحصل على الأثر تابعًا له، والذي يختفي من الوجود حينما ينشأ تابعُهُ [مثل كون البذرة السبب المؤدي إلى النبات]، بينما تساعد ظروف العمل في الوقت نفسه السبب الرائج في إحداث الأثر. [مثل التربة، والماء، وضوء الشمس، هي ظروف العمل الآنية النبات[.

وبالنسبة للإدراك البصري، فبالإضافة [لهذين العاملين السببيين]، فإنه يتطلب شيئًا خارجيًّا كالظرف البؤري لنشأته، بينما أجهزة الاستشعار المرئي [الخلايا الحسية] للعيون هي ما يُسمَّى الظرف السائد. [لحظة من] الإدراك تحتاج أيضًا ظرفًا يسبقها مباشرةً؛ لكي يُحدِث استمراريةَ طبيعتها الجوهرية مثل الإدراك؛ ولهذا فللحظةٍ من الإدراك البصري فإن الظرفَ السابق مباشرةً هو لحظة أخرى من الإدراك، تلك اللحظة التي تسبقها مباشرةً. [الإدراك العقلي المجرد الذي يَتَّخذ هدفًا له شكلُ اللحظة السابقة مباشرةً للإدراك البصري المجرد لشكل الظرف السابق مباشرةً.]

والآن فبالنسبة للإدراك المفاهيمي لهذا الشكل، [الذي يتبع الإدراك العقلي المجرد له]، فإنه بحاجةٍ أيضًا إلى لحظة قَبْلية في مسار إدراكه، باعتبارها الظرف الذي يسبقها مباشرةً. [سيكون هذا هو هو الإدراك العقلي المجرد لهذا الشكل.] هل هذا الظرف السابق مباشرةً هو أيضًا السبب الرائجُ له؟ أظن ذلك، لكن هذا ليس واضحًا.

عمليات الإدراك الحسية المجردة [والعقلية المجردة] هي عمليات إدراك للطبيعة الجوهرية فقط لشيءٍ ما [النوع العام لهذا الشيء، مثل كَوْنه شكلاً مرئيًّا]. فهي ليست عمليات إدراك للطبيعة الوظيفية لشيءٍ ما [ما يفعله شيءٌ ما، أو كيف يؤدي وظيفته.]

بعد هذا [التسلسل من] الإدراك [المرئي والعقلي] المجرد [لشكلٍ] يوجد إدراك عقلي مفاهيمي [لهذا الشكل]، الذي يُتعرَّف عليه من خلال فئة المعنى، وهذا [التسلسل] يُحدِث أيضًا إدراكًا مفاهيميًّا [لهذا الشكل]؛ من حيث "أنا" و"ما أمتلكه"، لذا فإن عملياتِ الإدراك هذه لها أسبابها الرائجة الخاصة بها.

ينشأ الإدراك الحسي استجابةً للظروف المحيطة بنا مباشرةً، لكن أثناء النوم العميق بدون أحلامٍ فلا يكونُ الإدراكُ الحسيُّ ظاهرًا، لكن الإدراكَ العقليَّ موجودٌ؛ فإنه ما يزال باقيًا.

والآن في التانترا [أنوتارايوغا] نتحدث عن مستوياتٍ مختلفةٍ من دقة الإدراك؛ فهناك المستوى الصافي للعقل أثناء النوم، وهناك ممارساتٌ لإدراكه. وهذا يُوحِي بأن لدينا أيضًا نشاطًا عقليًّا أثناء النوم العميق. في كتاب "المراحل الخمس" في نص ناغارجونا، فيما يتعلق بالغوهياساماجا، وأيضًا في تعليقات ناغابودي ونصوصه عن الموضوع، نجد تقديمًا للعقول الثلاث الخفية التي تصنع الظهور. [الظهور المتصلب (الظهور، والظهور الأبيض)، انتشار الضوء (الزيادة: الظهور الأحمر)، والعتبة (قرب النوال: الظهور الأسود)]. والخواآت الأربع [خاوٍ، خاوٍ قليلاً، خاوٍ جدًّا، خاوٍ تمامًا). الخواآت الثلاثة الأُوَل تُشكِّل مستوياتٍ من النشاط العقلي، الذي يتوافق مع العقول الثلاثة الخفية، التي تصنع الظهور؛ بينما الخواء التام يتوافق مع أدق مستوى للنشاط العقلي، وهو عقل النور الصافي].

حالة الخواء الرابعة هي تلك التي تسبقها [مباشرةً] حالات الخواء الثلاث السابقة، وهذه الثلاثة [أي العقول الخفية الثلاثة التي تصنع الظهور، والخواآت الثلاثة] تنشأ [بالتسلسل] مع التسلسل المتقدم [لتُحلِّل المستويات الكبرى من الإدراك في العقل ذي النور الصافي عند الوفاة]، ويتبع ذلك[بالتسلسل، بعد فترة من العقل ذي النور الصافي] تسلسلٌ عكسيٌّ [للثلاثة] شبيه بالتسلسل التقدمي والعكسي، وهو يحدث في النوم، ومن الممكن التعرف عليه. الشيء نفسه مع الباردو الفترة الزمنية بين الوفاة وإعادة الميلاد؛ تتابع تقدمي [للتحلل] يَحدُث أيضًا [في نهايته]، وحينما يتوقَّف العقل ذو النور الصافي في فترة الباردو، [إذن ففي اللحظة القادمةِ، مع بداية التسلسل العكسي]، يحدث الوعي بالميلاد [لحظة الحمل].

والغرضُ هنا هو أن كلاًّ من هذه المستويات المختلفة للإدراك أو العقل له سببه الرائج [الذي ينشأ منه باعتباره تبعًا له]، وكما يُقالُ في تفسير[دارماكيرتي] "لكتاب (ديغناغا: "خلاصة وافية للصلاحيات"): السبب الرائج للإدراك يجب أن يكونَ إدراكًا." لذا يمكننا فَهم هذه الجملة بطريقةٍ جيدةٍ من تحليل الغوهياساماجا هذا. وهكذا فإن إدراك وجود الميلاد [في لحظة الحمل] سببه الرائج هو العقل ذو النور الصافي للباردو.

وبالنسبة لمدارس الفلسفة الهندية غير البوذية التي تؤمن بالحيوات السابقة والنفس، فإنها تؤمن أنها نفسٌ ساكنة ثابتة، تحصل على ولادةٍ جديدةٍ، وتترك القديمة. ويستخدمون فرضية وجود حيواتٍ ماضية ومستقبلية ليبرهنوا على أن النفسَ هي الأداة، والمستولية على [إعادة الميلاد.] لكن البوذية ترفضُ مفهومَ النفس الساكنة الثابتة.

فالبوذية تؤمن بوجود حيواتٍ ماضية أو مستفبلية على أساس مسار [فردي] للإدراك. [وهذا ينتج من حقيقة أن السبب الرائج للإدراك، أو بعبارةٍ أخرى لحظة الإدراك القَبْلية، تتوقف حينما تثيرُ اللحظةَ التاليةَ. ولهذا فإن النفسَ المنسوبةَ إليه يجب أن تكونَ هي أيضًا غير ساكنة؛ لأن مسارَ الإدراك الفردي غير ساكن، بل يتغير من لحظةٍ إلى أخرى.]

هل للنفسِ نهايةٌ؟

والآن نتناولُ هذا السؤالَ: هل للنفس نهاية أم لا؟ [بعض الأديان الإيمانية تقولُ إنه] بعد الموت ننتظر مَحكَمةً نهائيةً، وعندئذٍ نذهبُ للجنةِ أو إلى النار. فإذا ذهبنا للجنة نعزف الموسيقى أمام الرب، وهذا لطيفٌ جدًّا. والبوذية تقول شيئًا مشابهًا تمامًا لهذا، وتتحدث أيضًا عن النار [لكنها تؤكد على أن كلَيهما عبارة عن عمليات إعادة ميلاد، تتبعها أيضا عمليات إعادة ميلاد أخرى.] والآن لا أعرفُ أتوجد نهاية للنفس في الواقع في هذا النوع من التفسير [الإيماني] أم لا. [حينما تصل إلى الجنةِ أو إلى النار.]

بعض التقاليد البراهمانية تقول إن نفس الفرد تندمج مع براهما العظيم، فهل هذه نهاية حقيقية أم لا؟ هذا أيضًا لا أعرفُهُ. بعض الأديان غير الإيمانية مثل الغينية تقبل فكرة الموكشا [التحرر] وبعض كتبهم المقدسة تقول إن الموكشا هي شبيهةٌ بلونٍ من ألوان الجنة؛ حيثُ تظل هناك للأبد.

لا أعرف موقف تلك المدارس الغينية على وجه الدقة، لكن في البوذية يوجد تأكيدان: أحدهما أنه حينما تنال النيرفانا [التحرر] فبقية دورة الحياة هذه يستمر الجسد، (كما هو الحال النسبة للعقل والنفس المسميَيْنِ على مسار كليهما)، ويعرف هذا بالـ"نيرفانا ذات الرواسب".

لكن طالما أن هذه التكتلات المخصصة (للجسد والعقل)، التي تحصل عليها من توقُّف الكارما السابقة عند الموت، إذن (فبنهاية الجسد) فإن مسارَي الإدراك والنفس أيضا يتوقَّفان. هذه هي "النيرفانا دون رواسب." ولذا فعند هذه النقطةِ تتوقَّف النفسُ عن الوجود في الواقع. (فقد وصلت النفسُ إلى نهايتها).

ورغم ذلك فالتأكيدُ الآخر، ألا وهو الخاص ببوذية الماهايانا العامة، هو أنه لا يوجد سبب لوجود توقف للوعي الرئيس، فالأفكار المعتمدة على الإدراك المشوَّه الخادع تنتهي، طالما أن هناك الفهم الصحيح والإدراك المشوَّه [المتعارض الذي يتخلَّص من الأساس الذي بُنيَت عليه، ويستلزم أحدهما نفيَ الآخر، ولذا فلا يمكن وجودهما في آنٍ واحدٍ في لحظةٍ عقليةٍ]، لكن لا يوجد شيءٌ مشابه لهذا يمكن أن يتعارضَ مع العقل ذي النور الصافي.

وبسبب ذلك فإن العقولَ [المنفردة] ذات النور الساطع ليس لها نهايةٌ، ولذا فإن النفسَ المصنَّفةَ اعتمادًا على العقل ذي النور الصافي أيضًا ليس لها نهاية، ورغم أن عادات الإدراك المشوه يمكن أن تنتهي فلا يوجد سبب يُبرِّر حتميةَ انتهاء عقلٍ ذي نورٍ صافٍ. وهكذا فالبوذيةُ لها موقفان: أحدهما هو أن للنفس نهاية، والآخر هو أنه ليس للنفس نهاية.

الخلاصة

عبر ثلاثة آلاف سنة أو أكثر تطورت تقاليد دينية مختلفة، وحاولت الإجابة عن هذه الأسئلة الثلاثة. لكل هذه الأديان الرئيسة مظهران: جانب ديني، وآخر فلسفي، وبعبارةٍ أخرى: مظهرٌ يتعاملُ مع التعاليم العملية لترويض القلب، وتأييد الفلسفة المعضَّد لتأكيدِها.

الإيمان والعقل يجب أن يمضيا معًا في هذا الطريق في كل التقاليد، تقول البوذيةُ: إن التعاليمَ العملية هي جانب "الطريقة"، والتعاليم الفلسفية التي تدعمها هي جانب "الحكمة". ويتضمن الجانب العملي أساسًا بوصفه طريقة تطوير الرغبة (مثل الرغبة في مساعدة الجميع في التغلب على معاناتهم.)

أحيانًا أَصِف فئتينِ من الدين: دينٌ ربَّاني، ودينٌ غير رباني. فالبوذيةُ دينٌ غير ربَّاني؛ وذلك من وجهة النظر الدينية الإيمانية، وهي أن البوذيةُ ليست دِينًا حقيقيًّا، بل هي شكلٌ من أشكال الإلحاد. وبعض الأصدقاء يقولون إن البوذية هي "وسيلة للوصول إلى الإله،" ولذا فإنها ليست ضد الإله. والبعض الآخر يُصَوِّبونني مثل ذلك.

أشعرُ أن المفهوم الأساسي للدين في الأديان الإيمانية هو الإله، وبعض البوذيين يقولون إن البوذية تأتي من بوذا، لكن شاكياموني بوذا أتى من كونه كائنا واعيًا محدودًا، إلى أن وصل بود غايا، فطبقًا لوجهة النظر الشائعة كان لا يزال كائنًا محدودًا.

التقليد السانسكريتي يتحدث عن أربعة أجسادٍ لبوذا، الكايات الأربعة، ولذا فإن هناك اختلافًا طفيفًا؛ لكن التقليد البالي المتقدم يقول إن الجزء المتقدم من حياةِ شاكياموني بوذا توضح أنه كان كائنًا واعيًا محدودًا، وفيما بعدُ صار بوذا متنورًا. وهكذا، فعلى الرغم من أن تعاليم بوذا أتت منه حينما صار بوذا، فإن بوذا نفسَهُ أتى من كائنٍ محدودٍ، ولذا فإن البوذيةَ تأتي من مستوى بشريٍّ، لا من الله، وإذا كان الإلهُ كائنًا متنورًا بالكليةِ، وإذا كنا نؤكدُ مثل ذلك فبوذا يُشبه الإله، لكنه لا يزال يُوصَف بأنه أتى من كونه كائنًا محدودًا.

وجهة النظر البوذية ونظريتُها تعتمدان على الواقع المَعِيش. خذ على سبيل المثال الحقائق الأربع النبيلة. المعاناة وسببها: يوجدان في الواقع. وتفسير إنكار الذات يتحدث عن طبيعة الواقع. ومفهوم النيرفانا يعتمد على ذلك. وبعض النصوص البوذية تقول: "تمسك بالطبيعة الجوهرية للواقع أساسًا؛ وتُطوِّر طريقةً معتمدة على ذلك باعتبارها الطريق؛ ومن ذلك سوف تُحققُ ما تصبو إليه."

لذا فأنا أُميِّزُ بين العلم البوذي والفلسفة في الديانة البوذية؛ فعلى مستوى العلم البوذي لا يوجد مناقشة للتقييم الأخلاقي، هناك فقط استقصاء لماهية الواقع، ولكي نجري هذا النوع من الاستقصاء تحتاج طريقة الاستقصاء أن تكون موضوعيةً وحيادية.

نحن بحاجةٍ إلى الشك؛ هذا أمرٌ مهمٌّ جدًّا، فالشك يدعو للتساؤل، الذي بدوره يقود للاستقصاء، وهذا يؤدي إلى إجاباتٍ [موضوعيةٍ]. ولذا فهناك تأكيدٌ على المنطق، خاصةً في التقليد السانسكريتي لجامعة نالاندا بالهند [الذي تتبعه البوذيةُ التبتيةُ]، لماذا نسأل عن أشياءَ لكي نمارسُها؟ هذا لأننا بحاجةٍ لمعرفةِ الواقع؛ الممارسة بحاجة للاعتماد على الواقع، لذا فإن الاستقصاءَ أمرٌ مهمٌّ.

إذا كان الدين معتمدًا على الاقتباسات من الكتب المقدسة فقط، فإنه عندئذٍ لا يعتمد في الحقيقة على العقل، ولكن يمكننا الاقتباسُ، لكن صلاحية الاقتباس تحتاج للاعتماد على المنطق. وفي البوذية نتحدثُ عن ثلاثة أنواعٍ من الظواهر الطبيعيةِ: الواضحة والغامضة والمبهمة. الفئةُ الأخيرة لا يمكنُ معرفتُها مباشرةً بمجرد الإدراك؛ بل لا يمكن معرفتُها بالتدخل المنطقي، يمكن معرفتُها بالاعتماد على مصدر حقيقي للمعلومات، أو على شخصٍ ما لديه معرفةٌ صالحة فقط. [صلاحية هذا المصدر للمعلومات بحاجةٍ أن تُبنَى على المنطق.]

إذن فالعلم البوذي يستقصي طبيعةَ ما هو موجود، وما هو موجود له مظهران: العالم المادي، والعالم الذهني. والعلم الحديث متقدمٌ جدًّا في مجال [استقصاء] العالم المادي مقارنةً بالفهم البوذي. ولذا فمن المفيد للبوذيةِ أن تتعلَّمَ من العلم الحديث، لكن فيما يتعلقُ بالظواهر الطبيعية المتعلقة بالعقل والوعي فإن العلم الحديث هو في مرحلة البداية فقط، مما يسميه "العلمُ اللطيف." فمن المعرفة الهندية القديمة بالعقل –ƒ البوذية والجاينية والهندوسية – يمكننا اكتسابُ معلوماتٍ جمةً، وبعض العلماء يُظهرون شغفًا بالتعاون، وهذا أمرٌ مفيدٌ جدًّا.

Top