الالتزام الذاتي الأخلاقي جزء أساسي من الطريق البوذي. ولكننا سنجد الأخلاقيات في جميع التقاليد الروحانية؛ وليس فقط في التقاليد الروحانية بل أيضاً في نُظم المجتمع. إذاً ما الذي يجعل الأخلاق البوذية "بوذية"؟ لتحديد هذا سيكون علينا أن نتفحصها في سياق الحقائق الأربعة النبيلة – التعاليم الأساسية التي أعطاها بوذا.
السلوك الأخلاقي في سياق الحقائق الأربعة النبيلة
الحقيقة النبيلة الأولى: جميعنا نعاني
الحقيقة الأولى في الحياة هي إننا جميعاً نعاني. أولاً، هناك المعاناة العادية من ألم وتعاسة. ثم، هناك المشاكل المرتبطة بسعادتنا المعتادة، مثل إن السعادة لا تدوم ولا تشبع. لا نعلم ما الذي سيحدث بعد ذلك، وعندما نحقق السعادة فعلاً عادة ما تتحول إلى تعاسة. على سبيل المثال، تناول الكثير من المثلجات نتيجته آلام المعدة. في النهاية، هناك المعاناة التي تتخلل كل شيئ، والتي هي الأساس لنوعي المعاناة السابقين. المعاناة التي تتخلل كل شيئ هي تكرار إعادة الميلاد غير المتحكم فيه (في السنسكريتية: سامسارا)، والتي سببها أفعال الكارما القهرية، والتي بدورها مدفوعة بالمشاعر والمواقف الداخلية المُربكة. هذه المشاعر والمواقف الداخلية المربكة تنشأ نتيجة عدم الوعي، أو الجهل بالسبب والنتيجة السلوكية أو بطبيعة وجود الأشياء. عدم الوعي أو الجهل هذا يؤدي بنا إلى الاستمرار في اتخاذ نوع إعادة الميلاد الذي سيكون الأساس في أن نقاسي من أول نوعين من المعاناة؛ إذا، عدم الوعي يؤدي بنا للمشاعر والمواقف الداخلية المُربكة، والتي تؤدي بنا إلى الفعل القهري،الذي يخلق إمكانيات الكارما التي تؤدي بنا لإتخاذ إعادة الميلاد غير المتحكم به. إعادة الميلاد غير المتحكم به هو أساس المعاناة من النوع الأول والثاني: التعاسة وسعادتنا العادية التي لا تدوم أبداً أو لا تشبع أبداً.
الحقيقة النبيلة الثانية: أسباب المعاناة
الحقيقة النبيلة الثانية هي حقيقة أسباب المعاناة. السبب الحقيقي للمعاناة هو عدم وعينا (عدم الوعي بقانون الأسباب والنتائج السلوكية، عدم الوعي بالواقع)، والمشاعر المُربكة (الجشع، الشهوة، الغضب، الغُفل) سببهم عدم الوعي، وأفعال الكارما القهرية المدفوعة بعدم الوعي هذا.
الحقيقة النبيلة الثالثة: من الممكن إيقاف هذه المعاناة
الحقيقة النبيلة الثالثة هي إنه من الممكن تحقيق إيقاف حقيقي لعدم الوعي هذا، فلا يحدث أي نوع من أنواع المعاناة الثلاثة.
الحقيقة النبيلة الرابعة: الطريق لإيقاف المعاناة
الحقيقة النبيلة الرابعة هي مسار الذهن أو طريق الفهم الذي سيؤدي إلى إيقاف المعاناة. الطريق هو الفهم الصحيح لقانون الأسباب والنتائج السلوكية، والواقع. إذا طورنا هذا الفهم الصحيح، بإصرار قوي على التحرر من تكرار إعادة الميلاد غير المتحكم به حينها سنصبح أحراراً من الحقيقتين النبيلتين الأولتين، (المعاناة الحقيقية وأسبابها)، وسنحظى بما يطلق عليه التحرر. ولكن من أجل أفضل مساعدة للآخرين نحن بحاجة لأن نذهب أعمق من هذا؛ نحن بحاجة لأن نتغلب على المعوقات التي تمنع ذهننا من إدراك الاتصال المترابط بين كل شيئ.
إذا فهمنا كيف أن كل شيء متصل، سنفهم تماماً قانون الأسباب والنتائج السلوكية، والذي يعني إننا سنعرف الطريقة الأفضل لمساعدة الآخرين؛ سنعرف ما أثر كل شيئ نقوم به لهم. بناء على الحب (أن نتمنى للآخرين أن يحصلوا على السعادة وأسبابها) والشفقة (أن نتمنى للآخرين التحرر من المعاناة وأسبابها)، نحن نطور حلاً استثنائياً والذي به نتحمل مسئولية أن نقود الجميع إلى طريق التحرر والاستنارة. لكن إدراك إننا في حالتنا الراهنة لا نستطيع القيام بهذا، نحن ننمي البوديتشيتا. مع البوديتشيتا نحدد هدفنا بأن نحقق الاستنارة حتى نكون حقاً قادرين على تحقيق هدف قيادة الآخرين لذات الحالة. إذا دمجنا فهم الواقع مع دافع البوديتشيتا عندها سنحقق الاستنارة – نصبح بوذا.
إذا في جمل قليلة، هذا هو مسار البوذية. مع الالتزام الذاتي الأخلاقي نحن نمتنع عن التصرفات الهدامة وبالتالي نتجنب إعادة ميلاد في حالة أسوأ ونحظى بدلاً من هذا بإعادة ميلاد أكثر سعادة. مع أن العديد من التقاليد الروحانية الأخرى تُعلِم السلوك الأخلاقي من أجل تحقيق إعادة ميلاد أسمى في الجنة؛ فهدف إعادة الميلاد الأسمى ليس حِكراً على البوذية فقط، إن هذا المستوى من التدرب الأخلاقي (من أجل منع السلوك الهدام السلبي من أجل الحصول على إعادة ميلاد أفضل) سيكون حجر أساس في الطريق لتحقيق التحرر والاستنارة. نحن بحاجة للكثير من إعادات الميلاد من أجل القيام بما هو لازم لتحقيق الاستنارة، لذا هناك غرض إيجابي جدا من هذا التدرب على السلوك الأخلاقي: ما الذي يجعل هذا المستوى من التدرب الأخلاقي بوذياً, إنه تدرُبنا على الالتزام الأخلاقي المصحوب بدافع البوديتشيتا لأجل تحقيق التحرر والاستنارة بالنهاية.
التدريبات الثلاثة العليا
في البوذية نحن نتحدث عن التدريبات الثلاثة العليا، والتي يمكن أن يتم التدرب عليها سواء كان الدافع هو تحقيق التحرر الشخصي أم تحقيق الاستنارة. التدريب الأعلى هو التدريب على الوعي التمييزي الأسمى. إنه القدرة على التفرقة بين ما هو حقيقي وبين ما هو خيالي أو وهمي. لذا فالوعي التمييزي مثل الفأس الحاد الذي يقطع الارتباك والجهل.
أساس القدرة على تطبيق هذا الوعي التمييزي الأسمى هو ما يطلق عليه التركيز الاستغراقي الأعلى. التركيز هنا يعني القدرة على التركيز على الشيء وتحديداً على حقيقة الأشياء دون أن يتشتت تركيزنا على شيئ أخر أو يصبح خاملاً – القدرة على أن تركز بهذه الطريقة طوال المدة التي ترغب بها. هذه القدرة على التركيز مماثلة لحصولنا على هدف جيد لفأسنا؛ نحن بحاجة لأن نضرب العلامة بالفأس، لأن نصيب حقاً المكان الذي نريده لنقطع الارتباك.
الأساس لذلك ، فقط – التركيز العالي – بالالتزام الذاتي الأخلاقي، وهنا يأتي موضوعنا حول الأخلاق والالتزام. كي نكون قادرين على التركيز يجب أن نكون قادرين على الالتزام بتصحيح تركيزنا عندما يضل، يجب أن نكون قادرين على الالتزام بتصحيح تركيزنا عندما يصبح شديد البلادة وناعساً. لذا نحن بحاجة للالتزام المشابه لإمتلاك القوة على استخدام الفأس. إذاً الالتزام الذاتي الأخلاقي هو الأساس أو الشرط الأساسي للتركيز، والذي بدوره الأساس لوعي تمييزي أسمى.
نحن لا نستخدم التركيز فقط عندما نتأمل على الخلو أو عند التأمل على شيئ أخر. بل أننا نركز بشكل بناء في جميع المواقف. على سبيل المثال، إذا كنا نرغب في مساعدة شخص ما، علينا أن نركز فيما يقوله هذا الشخص. علينا أن نصغي بإنتباه ولا نترك ذهننا يتشتت إلى أشياء أخرى مثلاً (متى سيكون موعد الغَذاء) . علينا أن نكون قادرين على التركيز ، ولا نترك أنفسنا للنعاس، أو نشرد بذهننا في الفضاء، فنحن نحتاج أن نكون قادرين على التركيز كي نستطيع التمييز (وهنا يأتي معنى أخرى للوعي التمييزي) بين ما هو ملائم لنقوله، ما الذي سيكون قوله مفيداً، ما الذي سيكون فعله مفيداً، وما الذي لن يكون ملائما وغير مفيد. إذا مرة أخرى أنت ستكون بحاجة للقدرة على الالتزام بعدم التفكير فيما تريد أن تفعله (تناول الغداء على سبيل المثال)، وبدلاً منه التفكير ما الذي سيكون أفضل للشخص الآخر.
إذا هناك أحتياج أعظم للالتزام الذاتي الأخلاقي؛ وفي السياق البوذي هذا يعني أن نكون قادرين على التركيز بالوعي التمييزي على الواقع ومساعدة الآخرين.
الآن إذا كنا نتحدث عن التركيز فنحن نتحدث عن نشاط ذهني، وسنكون بحاجة للالتزام – في المقام الأول انضباط الذهن. ومن الواضح إننا بحاجة للالتزام حتى نصبح قادرين على الجلوس للتأمل، للتغلب على الكسل، للتغلب على الإرتباك، إلتزام ذهننا أصعب من إلتزام سلوكنا أو جسدنا وحديثنا. لذا، كيف نحصل على القوة لنكون قادرين على ضبط سلوكنا الذهني؟ نحصل على هذا من خلال إلتزام جسدنا وحديثنا.
الأخلاق في سياق الثقافة الغربية
من الهام أن نفهم الاختلافات بين المدخل البوذي للأخلاق والمداخل الأخرى. معظمنا نشأ في ثقافة غربية أو شرق أوسطية، وفي الثقافة الغربية أو الشرق أوسطية الأخلاق في الأساس هي مسألة قواعد. هناك قوانين سماوية أُعطيت بواسطة الرب أو الله، وفي المجال المدني هناك القوانين التي صنعت بواسطة الملك أو المشرعين الحكوميين. في الثقافة الغربية فكرة الأخلاق قائمة بالكامل على الطاعة – إطاعة القانون الإلهي أو المدني أو كليهما. إذا أطعت فستعتبر شخص جيد أو مواطن جيد؛ إذا عصيت فستعتبر شخص سيء أو مواطن سيء. في المجال الديني، سيصنف الشخص عاصي وفي المجال المدني سيصبح مجرماً.
إذا في سياق الثقافة الغربية والشرق أوسطية، سيعتبر المتجاوزون سيئين أخلاقياً، وتؤكد الثقافة على ظاهرة الذنب. يُحكَم علينا بأننا مذنبون – مذنب بالمعنى القانوني والنفسي. في الغرب، الكثير من أخلاقيتنا تعتمر على فكرة طاعة القانون. بعض أعضاء المجتمع قد يتفادون العقوبة؛ إذا كانوا ماهرين جدا ولديهم مال كافي، يقومون بتعيين محامون من أجل أيجاد ثغرات في القانون تسمح لهم بالتحايل على القانون.
الأخلاق في السياق البوذي
في البوذية الأمر ليس قائماً على فكرة الطاعة، في الواقع إنه قائم على ما نطلق عليه "الوعي التمييزي". رأينا هذا المصطلح مبكراً، بمعنى التمييز بين الواقع والخيال. لكن هنا بشكل أساسي التفرقة أو التمييز بين ما هو نافع وما هو ضار. إنه أمر مختلف تماماً عن التمييز بين ما هو قانوني وماهو غير قانوني في سياق النظام القضائي. تذكروا أن السياق البوذي بالكامل قائم على التحرر أو التخلص من المعاناة. وطريقة القيام بهذا هي بالقضاء على أسباب المعاناة. هذا يعني إننا بحاجة للتمييز بشكل صحيح لما هو سبباً في المعاناة. ومن ثم نحتاج الدافع للتخلص من هذا السبب أو التغلب على هذا السبب. بالطبع كل شخص يرغب في أن يكون سعيداً؛ هذا هو الدافع الطبيعي المصاحب لغريزة البقاء، وهي غريزة أساسية للغاية. لكن معظم الوقت نحن لا نفهم حقاً ما الذي سيساعد على إحداث الغياب للمعاناة. أو يساعد على إحداث السعادة لنا.
إذا فالوعي التمييزي يسير جانباً إلى جنب مع الالتزام الذاتي الأخلاقي. نحن نُميز بشكل صحيح "إذا كنت سأتصرف بهذه الطريقة، هل سيسبب هذا مشاكل – ربما مشاكل للآخرين، لكن بشكل أساسي هل سيسبب مشاكل لي. وإذا تصرفت بشكل بناء، سيكون هذا شيئاً مفيداً لي ولربما للآخرين أيضاً". ومن ثم بغض النظر كنا نتجنب السلوك المدمر أم لا ففي الحقيقة الاختيار لنا بالكامل؛ هذا يعتمد على إلى أي درجة نحن جادون، وإلى أي درجة نحن نهتم بالمعاناة التي قد نختبرها في المستقبل. قد تكون هذه حالة شخص ببساطة لا يعرف شيئاً عما هو مفيد، ولذا فإذا صادفنا أشخاص يتصرفون بطريقة هدامة فببساطة لإنه لا يعرفون ما هو الأفضل ليقوموا به، نستطيع أن نحاول مساعدتهم ليفهموا.
المثال الأكثر شيوعاً هو الأطفال. الأطفال الصغار لا يعرفون هذا، على سبيل المثال، أنتم تعرفون إنه لا يجب أن تحطم ألعاب الأطفال الآخرين أو أن تأخذوها، نحن بحاجة لأن نعلم الأطفال ذلك. التلقين الغربي قد يجعلنا نعنون هذه الفكرة للطفل بـ"فتاة سيئة" أو "فتى سيئ", لكن في الحقيقة هم لا يعرفون أي شيئ أفضل: لذا، ليس هناك أي داعي لجعل الطفل يشعر بالذنب – في موضوع ليس له أي علاقة بالذنب – إنها فقط مسألة تعليم. إذا علمنا الأطفال إنهم سيعانون نتيجة سلوكهم، إذا أستطعنا مساعدتهم على فهم إنهم عندما يتصرفون بشكل خاطئ فلن يحبهم الأطفال الآخرين، عندها سيتعلمون.
إذا رأينا شخصاً يتصرف بشكل هدام لإنه مرتبك، هذا الأمر يجعل هذا الشخص هدفاً ملائماً للشفقة – وليس هدفاً ملائما للغضب أو العقاب. الشكل الذي قد تتخذه الشفقة قد يتضمن وضع مثل هذا الشخص بالسجن، إذا كان يؤذي الآخرين. لكن هذا الفعل يجب أن ينبع من الشفقة – نحن نضع هذا الشخص في السجن لنمنعه من أن يؤذي أو يقتل الآخرين، ولنمنعه من التسبب في المزيد لنفسه. المدخل البوذي يحمل موقفاً مختلفاً اتجاه الاضطراب المدني بالمقارنة بالسياق القضائي القائم على الذنب والعقاب.
لا تُسقط المفهوم الغربي للأخلاق على البوذية
من الهام جدا عندما نمارس البوذية إن لا نسقط أفكارنا الغربية عن الأخلاق على البوذية. العديد من المشاكل تظهر في تدربنا على البوذية بسبب إننا كغربيين نسقط بشكل غير ملائم أفكارنا الغربية عن الأخلاق على تدربنا البوذي. قد يظن البعض أنهم يجب عليهم القيام بالتأمل حتى يكونوا بوذيين "جيديين". بعض الغربيين قد يشعروا بإن عليهم طاعة معلمهم، والذي سيكون أمراً غاية في الغرابة من وجهة النظر البوذية. في الحقيقة يجب علينا أن نأخذ بنصيحة المعلم، لكن علينا أيضاً أن نستخدم الوعي التمييزي الخاص بنا. أحياناً سيخبرنا المعلم بأشياء فظيعة تماماً فقط من أجل أن يشجعنا على استخدام ذكائنا.
هناك قصة من أحد حيوات بوذا السابقة، عندما كان تلميذا ضمن العديد من التلاميذ الذين يدرسون مع معلم بعينه. أخبرهم المعلم يوماً ما أن يذهبوا لقرية بالجوار وأن يسرقوا أشياء له. جميع التلاميذ ذهبوا لسرقة شيئاً وإحضاره للمعلم، عدا إعادة الميلاد السابق لبوذا – ظل في غرفته. المعلم ذهب للغرفة وسأله: "لماذا لم تذهب لسرقة شيئ لي؟ ألا تريد أن تجعلني سعيداً؟" فرد عليه إعادة ميلاد بوذا السابق، "وكيف يمكن أن تجلب السرقة السعادة لأي شخص؟" فالدرس هنا إننا لا نطيع المعلم طاعة عمياء، فالمعلم ليس ضابط الشرطة أو ضابط الجيش، هذه ليس الطريقة البوذية. في الواقع المعلم يعطينا نصائح وخطوط إرشادية. المعلم يساعدنا لنتعلم كيف نستخدم الوعي التمييزي الخاص بنا، حتى يصبح كلاً منا بوذا، نحن لا نهدف لأن نصبح خدماً لبوذا، نحن نهدف لأن يصبح كلاً منا بوذا.
المفهوم الغربي بأن القانون غير متغير
اختلاف أخر بين الأخلاق الغربية والأخلاق البوذية في الاعتقاد في الغرب بأن للقوانين قداسة – كما لو لها حياة خاصة بها. يشعر البشر بأن القوانين الإلهية والتي أتت من الله لا يمكن أن تتغير. وأن القوانين المدنية أثناء سريانها تعتبر مقدسة جدا على الرغم من إنه يمكن تغيريها من خلال العملية التشريعية. ما نحتاج لإدراكه هنا هو التشابه لما نقوم به مع تأمل الخلو. في الخلو نتحدث عن غياب الطريقة المستحيلة للوجود. لنفهم الخلو نحتاج إلى تعريف ما هي الطريقة المستحيلة للوجود، وإدراك إن هذه الطريقة لا تشير لأي شيئ حقيقي. وأحد المستحيلات الرئيسية لطرق الوجود هو إن يكون هناك شيئ ما داخل شيئ آخر (في هذه الحالة القانون) والذي يؤسسه ويوجده بقواه الذاتية مستقلاً عن أي شيئ آخر. في مجال القوانين المدنية التفكير المستحيل هو: “هذا قانون، لن يشكل فارقاً ما هي الظروف، لا يهم ما هو الموقف تحديداً، أو ما هو السياق، القانون مؤسسة بذاته وقائم بذاته".
مؤخراً كان هناك قضية في سويسرا حيث قبض على المخرج السينمائي رومان بولانسكي بناء على طلب حكومة الولايات المتحدة ليتم تسليمه لجريمة إساءة جنسية زُعم إنه ارتكبها من ٣٠ عاماً. هذا مثال جيد على عقلية "هذا لا يشكل فارقاً ما هي المزاعم التي تم إدعائها من ٣٠ عاماً. لا يشكل فارقاً إن المرأة المتورطة بالأمر ترغب في إسقاط الاتهام الجنائي ضده. القانون هو القانون. ولا شخص فوق القانون. هو يجب أن يعاقب". هذا مثال جيد جدا على فكرة أن القانون له حياة خاصة به وقائمة بذاتها بمعزل عن أي عوامل، القانون هو القانون، ويجب طاعته. هذا اعتقاد خاطئ من وجهة نظر الفلسفة البوذية.
الأخلاقيات البوذية كخطوط إرشادية
أعطى بوذا العديد من الخطوط الإرشادية بخصوص الأفعال التي بطبيعتها ستُسبب المعاناة أو التي ستكون ضارة للنمو الروحاني. على سبيل المثال، على الرهبان والراهبات ألا يتناولوا الطعام بعد الظهيرة، لإن هذا يجعل ذهنهم كسول للتأمل في المساء والصباح. بينما لم يقم بوذا بتعليم الكثير من الخطوط الإرشادية حول السلوك، فإن الالتزام أو الخط الإرشادي (على سبيل المثال، الالتزام بتجنب القتل) ليس قانوناً كالوصايا العشر وليس محفوراً على الصخر. الإرشادات ليست مقدسة أو مستقلة بالكامل عن الموقف، السياق، أو أي ظروف مخففة. بالعكس، الخطوط الإرشادية البوذية ظاهرة "اعتمادية النشأة" "النشوء الاعتمادي"، لقد نشأت القاعدة معتمدة على أسباب وشروط، وفي سياق مواقف وظروف.
نستطيع أن نرى هذا بوضوح من خلال تطور العهود الرهبانية. في الأيام الأولى للمجتمع البوذي لم يكن هناك عهود. لكن ظهرت العديد من المواقف في المجتمع البوذي والتي سببت مشاكل – إما بين أعضاء المجتمع الرهباني أو مع عامة المجتمع الذي كانوا يدعمون المجتمع الرهباني. لذا قال بوذا، "لتجنب هذه المشكلة، لا تقوموا بهذا الفعل"، ومن هنا بدأت العهود. عندما تدرس الفينايا (عهود وقواعد الانضباط)، وسنجد النصوص تُقدَم تقريباً مع كل قاعدة الطريقة التي نشأت بها هذه القاعدة – ما هو الموقف الذي دعا بوذا إلى أن يقرر عهد ما ، على الرغم من ذلك، ومع كل هذه العهود، هناك دائماً مبدأ إنه عندما تتغير الظروف الخاصة بتلك الارشادات فإن العهد يمكن كسره.
كمثال، لا يجوز للراهب أن يلمس امرأة، حتى يتجنب الشهوة. ولكن إذا كانت المرأة تغرق فلن يقف الراهب فقط ليشاهدها – الراهب عليه أن يساعدها. هذا أمر واضح جدا هناك أوقات تُلغي فيه الضرورة المحظورة، في البوذية، الأخلاق والإرشادات نسبية – فإنها تعتمد على موقف بعينه . إذا كان هناك ضرورة لأن أتصرف بشكل هدام، وكان هذا الفعل سيُحدث المعاناة، نحن سنفعل ذلك بوعي شديد مع إدراك تام بأنني. "سأتقبل المعاناة على نفسي الناتجة عن هذا الفعل، من أجل نفع الآخرين".
قصة أخرى من حياة سابقة لبوذا توضح هذه النقطة. بحياة السابقة لشاكياموني بوذا كان بحار على قارب، وكان القارب يحمل ٥٠٠ تاجر. وكان هناك ملاح سيقوم بقتل كل هؤلاء التجار ليسرقهم؛ بوذا استطاع أن يرى هذا باستبصاره. وعرف بوذا إنه لا سبيل آخر لإيقاف هذا القاتل إلا بقتله. لذا، بكل طواعية ووعي أخذ بوذا عواقب كارما قتل الملاح على عاتقه من أجل إنقاذ حياة الـ ٥٠٠ شخص، وأيضاً ليمنع الملاح من إعادة الميلاد بالعواقب الرهيبة لمثل هذا السلوك.
الأخلاق وعهود البوديستفا
تتضمن عهود البوديستفا العهود الجذرية والعهود المساعدة (الثانوية). معظم العهود الثانوية مرتبة وفقاً لتصنيف المواقف الداخلية بعيدة المنال الستة، والذي يعرفوا أيضاً بالاكتمالات الست. (الاكتمالات الست هم: الكرم، الالتزام الذاتي الأخلاقي، الصبر، المثابرة الممتعة ، الاستقرار الذهني، الوعي التمييزي.) عهود البوديستفا هي إلتزامات لمنع الأفعال الخاطئة التي تضر بتطور البوديتشيتا. أُثنين من هذه العهود ذو صلة بتطوير الالتزام الذاتي الأخلاقي. الأول، سنتجنب ضيق الأفق والإنغلاق الذهني عندما يتعلق الأمر بخير الآخرين. الموقف الداخلي الخاص بضيق الأفق قد يجعلنا نفكر: هذا الشخص لا يستحق المساعدة. هي بها الكثير من العيوب – لماذا حتى أُزعج نفسي محاولاً مساعدتها؟ أو: هذا وقت قيامي بالتأمل، لذا لا أستطيع مساعدتك؛ بناء على الجدول الخاص بي هذا يجب علي أن أتأمل فلا أستطيع أن أقوم باستثناء من أجلك – ربما في وقت أخر. هذا هو أن نكون ضيقي الأفق.
مثال أخر على الموقف الداخلي الخاص بالإنغلاق الذهني: ربما بمركز الدارما الخاص بك هناك راهب يحتاج مساعدة في حمل شيئ ثقيل، لكن هو لا يضع ردائه بشكل صحيح. الموقف الداخلي الخاص بالانغلاق الذهني: أنا لن أساعده حتى يقوم بإعادة ضبط ردائه بالطريقة الصحيحة بالضبط. هذا هو أن نكون ضيقي الأفق بشأن الأمور غير المهمة بدلاً من أن نعطي الاهتمام لما هو أهم، في هذه الحالة مساعدة الراهب في حمل الشيء. مثال أخر، دعونا نفترض أنً شخصا ما يقوم بترجمة محاضرتي من اللغة الإنجليزية إلى اللغة الألمانية. سيكون من شدة ضيق الأفق أن أبدأ بتصحيح أخطاء النحو والنطق. هذا النوع من النقد لا يساعد في تحقيق أي هدف حقيقي، وهو مساعدة المستمعين على فهم ما أقوله.
عهد البوديتشيتا الثاني المعني بتطوير الالتزام الذاتي الأخلاقي هو الخاص بمنع عدم ارتكاب الأفعال الهدامة عندما يكون الداعي لارتكابها هو الحب والشفقة. إذا كان طفلي مصاب بطفيليات معوية، يمكن أن أقرر أن لا أعطي للطفل دواء ليقتل الطفيليات لإن أحد الأفعال العشرة الهدامة في البوذية هو قتل الآخرين؛ قد أعتقد إنه من المهم إتباع هذه القاعدة دون استثناء. لكن من الواضح أني يجب أن يكون لدي حب وشفقة للطفل؛ يجب أن أخذ الطفل للطبيب؛ ويجب أن أعطيه الدواء لقتل الطفيليات. بالطبع هذه الديدان كانت أمي في حيوات سابقة، وصحيح أني يجب أن أعامل الديدان بحياد. لكن اتخاذ قرار متطرف مثل عدم معالجة مرض الطفل سيكون الشخص أحمق في فهم الدارما. سيكون الشخص متعصباً. من الواضح أنه في حياة الطفل الراهنة، سيكون الطفل أكثر فائدة للآخرين من الديدان التي في معدته. لذا لا نقتل الديدان بكراهية وغضب ("أنتي أيتها الدودة السيئة!")؛ لدينا شفقة تجاه الديدان، نتمنى لهم التوفيق ، لا نجد أي بهجة في قتلهم. ولكن مع ذلك أحياناً نحتاج لإتخاذ أفعال هدامة نابعة من الحب والشفقة.
مساوئ عدم المرونة
هذا النوع من المشاكل الذي قد نضع أنفسنا به إذا كانت لدينا فكرة أن: القانون هو القانون، الأخلاق البوذية مستندة على قوانين، وما دامت مكتوبة فهي مقدسة وغير مرنة. إذا حللنا هذا الموقف – كما تعلمنا أن نحلل دائما ماهو أمامنا – ماهي المشكلة في هذا الطرح؟ المشكلة في التمسك بـ "أنا" الزائفة. لدينا رؤية مزدوجة لأنفسنا. هناك "أنا" الراسخة التي هي سيئة ويجب أن تؤدب؛ وهناك "أنا" الأخرى التي ستقوم بعملية التأديب. نحن نفكر بأنه "يجب أن أوقف نفسي من القيام بهذا"، كما لو أن هناك "أنا" في جهة التي ستوقف "نفسي" على الجهه الأخرى من القيام بشيء غبي. إذا كانت لدينا هذه الذهنية يكون لدينا اعتقاد قوي في أثنتين "أنا" راسختين – المجرم المحتمل ورجل الشرطة. وجرس الإنذار الذي نضعه لمراقبة هذه الـ"أنا" ، كما لو كان لدينا عميل للمخابرات الروسية حقيقي متواجد بأذهاننا، ويعتبر بمثابة جاسوس . ومن الناحية الأخرى القانون الذي نتعامل معه علي أن له تواجد صلب لا يتغير والنتيجة لكل ذلك أننا نصبح متصلبين وغير مرنين جدا جدا.
هذا الفهم الخاطئ للإلزام قد يكون مُعزِز بسوء الفهم لنص شانتيديفا "الانخراط في سلوك البوديساتفا”. إذا كنت على وشك القيام بشيء غبي، أو كنت على وشك القيام بشيء هدام (هناك قائمة طويلة من السلوكيات السلبية في النص)، يُكمل النص: "كن كقطعة الخشب". يمكن أن نُسيء فهم هذا لأن يصبح المعنى: كن متخشبا كقطعة الخشب، كن مثل الإنسان الآلي. إذا اتخذنا وضع التخشب سنفكر "أنا لن أقوم بأي فعل؛ أنا لن أتفاعل؛ أنا لن أقوم بأي شيئ". هذا ليس التفسير الصحيح لهذه النصيحة. “كن كقطعة الخشب" تعني "كن حازماً في منع نفسك من الفعل السلبي"؛ هي لا تعني "كن متخشب كقطعة الخشب". عندما نفكر في هذه الـ "أنا" الزائفة نصبح متيبسين مثل الإنسان الآلي؛ نحن نفكر أننا يجب أن نؤدِب هذه الـ "أنا" السيئة وإلا سأكون شخص سيئ.
الطريقة المُثلى للتعامل مع الأخلاق البوذية
نحن بحاجة لأن نسترخي. وإنه لمن المهم أن نسترخي بينما لازلنا نحتفظ بإلتزام أخلاقي جيد. كيف نفعل هذا؟ أولاً وقبل كل شيئ، نحن بحاجة لأن نفهم إننا لا نتحدث عن قوانين – نحن نتحدث عن العديد من الإرشادات . إرشادات تخبرنا أنه إذا أردنا أن نتجنب أو نُقلل المعاناة فمن الموصى به أن نتجنب هذه السلسلة من الأفعال إذا أمكن. إنه ليس قانون نشعر بأننا مجبرون على إتباعه، أو نفكر إننا ليس لدينا أية فكرة عن المغزى من هذا القانون، أو نفكر إنه قانون غبي. الأمر ليس كذلك. الأخلاق البوذية ليست قوانين غبية. بوذا أشار لموضوعات بعينها بدافع الشفقة حتى نساعد أنفسنا في تجنب جلب المزيد من المشاكل لأنفسنا. الإرشادات تعتمد في نشؤها نشوءهاعلى الشفقة، معتمدة على الفهم لأسباب المشاكل وكيف نتجنبها. كل موقف نصادفه مختلف؛ نحتاج الوعي التميزي الخاص بنا ليقرر في كل موقف ما الطريقة النافعة للتصرف، أو العكس، ما الأفعال التي نحن بحاجة للامتناع عنها. هذا الفهم (معرفة ما نفعله وما لا نفعله)، بحاجة لأن يحدث بشكل طبيعي، وتلقائي، ليس على طريقة ازدواجية رجل الشرطة والمجرم المحتمل.
الالتزام الذاتي الأخلاقي عامل ذهني
ما الذي حقاً او فعلياً نعنيه في البوذية بـ "الالتزام الذاتي الأخلاقي" ؟ في السياق البوذي، كل لحظة من خبراتنا تتشكل من العديد والعديد من الأجزاء. هذه الأجزاء يمكن التعرف عليها في خمس مجموعات، والتي تدعى التجمعات الخمسة. نختبر اللحظة – الآن. الآن، في هذه اللحظة، ما الذي يصنع خبرتي؟ هناك الكثير، أجزاء عديدة. من الواضح أن جسدي جزء من خبرتي؛ العديد من أنظمة الحواس حاضرة، مثل الخلايا في عيني. أنا واعي بالشيء الحاضر من خلال استخدام أنواع عده من الوعي، مثل الرؤية والسمع. هناك مشاعر مختلفة مشاركة، أنواع مختلفة من العوامل الذهنية مثل التركيز، الانتباه، والاهتمام. لذا، كل هذه الظواهر التي تكون كل لحظة من خبراتنا يمكن تنظيمها في خمس مجموعات والتي نطلق عليها "التجمعات الخمس". قسم منهم يطلق عليه "العناصر الذهنية". الالتزام الذاتي الأخلاقي عامل ذهني.
في البداية، ما هو العامل الذهني؟ نحن نُفرق بين العوامل الذهنية من خلال ما يطلق عليه "الوعي الأساسي". في كل لحظة، نحن نستقبل معلومات ونقوم بمعالجتها. تذهب هذه المعلومات للعقل على هيئة نبضات كهربائية وكيميائية. الوعي الأساسي هو القادر على معرفة ما نوع المعلومات الواردة للمخ. الوعي الأساسي سيكون واعياً لأن هذه المعلومة هي معلومة مرئية، على سبيل المثال، أو معلومة صوتية، أو إحساس مادي مثل ساخن أو بارد. كل منا معتاد على "معرفة" الظاهرة التي تحدُث – إذا لم يكن لدينا الوعي الأساسي هذا، كل ما سيكون لدينا هو مجرد نبضات كهربائية دون أي تفسير لها.
العوامل الذهنية تصاحب الوعي الأساسي. هم يساعدون هذا الوعي على التعامل مع المعلومات القادمة. العوامل الذهنية قد تشمل الانتباه، الاهتمام، أو الشعور بالسعادة أو التعاسة بشأن المعلومة.
العوامل الذهنية قد تكون مشاعر سواء كانت سلبية أو إيجابية. هناك الكثير من العوامل الذهنية. وهناك مجموعة منوعة من العوامل تصاحب كل لحظة نختبرها. الالتزام الذاتي الأخلاقي هو أحد هذه العوامل ذهنية.
الالتزام الذاتي الأخلاقي هو تصنيف فرعي من عامل ذهني يطلق عليه "الإلحاح الذهني". الإلحاح الذهني هو الذي يتسبب في توجيه الأنشطة الذهنية لشيئ بعينه؛ إنه السبب في قيامنا بفعل ما. الإلحاح الذهني قد يكون الدافع لحك رأسنا؛ يمكن الإلحاح لقول شيئ؛ أو، الإلحاح لعدم قول شيئ، للامتناع عن قول شيئ؛ أو قد يكون الإلحاح للذهاب للثلاجة.
الإلحاح للذهاب للثلاجة هو إلحاح ذهني يمكن أن يكون مصاحباً لمشاهدة التلفاز. أثناء مشاهدة التلفاز هناك العديد من الصور التي تصل لعقلنا من خلال الجسد (الخلايا الحساسة للصورة بالعين) ووعي العين (الرؤية)، لكن هناك إلحاح آخر للذهاب للثلاجة. هذا الدافع يصاحب خبرة مشاهدة التلفاز. إذا يمكننا التصرف بناء على هذا الإلحاح بأن نختار ألا نتصرف بناء عليه. عندما تظهر الرغبة للذهاب إلى الثلاجة يمكن أن يكون لدينا إلتزام ذاتي أخلاقي بألا نقوم بهذا التصرف، بناء على قرار "لا، أنا لن أذهب إلى الثلاجة، حتى إذا فكرت في أني أرغب في هذا. لن أذهب للثلاجة لأحضر قطعة الكعك، سأمتنع عن هذا لأني أتبع حمية غذائية".
الآن يمكن أن ننظر إلى تعريف الالتزام الذاتي الأخلاقي. الالتزام الذاتي الأخلاقي هو إلحاح ذهني بحماية أفعال الجسد والحديث والذهن الخاص بالشخص. "حماية" تعني أن نصونها عن فعل شيئ؛ الإلحاح الذهني للحماية يأتي من إبعاد ذهن الشخص عن أية أمنية بإيذاء الآخرين. إذا، لأني لا أريد أن أؤذي الآخرين، سأصون أفعالي؛ سأمتنع عن التصرف بطريقة هدامة. إنه الإلحاح لأن أقول "لا، أنا لن أقوم بفعل هذا. أنا لن أقوم بضرب ابنتي لإراقتها العصير. أنا لن أقوم بالصياح عليها لإنها قامت بهذا الخطأ." هذا الإلحاح قد يأتي أيضاً من صرف ذهن الشخص بعيداً عن العوامل الذهنية الهدامة أو المُربكة التي كانت الدافع وراء قيامه بأفعال لإيذاء الآخرين في الماضي. قد يكون لدينا الإلحاح لأن نمتنع عن التصرف النابع عن الغضب. بُناء على محاولة التغلب على الغضب، لدي الإلحاح الخاص بالالتزام الذاتي الأخلاقي، والذي سيساعدني على الامتناع عن أن أكون غاضباً وأن أتصرف بناء على هذا الغضب.
الالتزام الذاتي الأخلاقي ليس ببساطة إلحاح يطرأ في ذات اللحظة (على سبيل المثال، في اللحظة التي أرغب بها في الصياح على أبنتي، أنا أمتنع)، ولكنه شكل عام من المبدأ الذي يوجد في الاستمرارية الذهنية كخط إرشادي عام: "سأمنع نفسي من القيام بهذا النوع من التصرفات. سأقوم باستخدام اليقظة والتي هي مثل الغراء الذهني، لأكبح نفسي عن الصياح، وسأستخدم التنبه لمراقبة نفسي في حالة ضل ذهن".
بالإضافة للامتناع عن السلوك الهدام الذي سيُسبب الأذى للآخرين، هناك العديد من التصنيفات الفرعية للالتزام الذاتي الأخلاقي. أي أنه بشكل أكثر عموماً الالتزام يعني أن نمتنع عن السلوك الهدام والذي سيكون مؤذياً لي، ليس فقط للآخرين، وأن أمتنع عن تجنب الأفعال الإيجابية. بعبارة أخرى، عندي التزام بأن أقوم بالإيجابي مثل التأمل، الدراسة، أو القيام بالعديد من التدريبات الروحانية، وأيضاً، هناك التزام أخلاقي بمساعدة الآخرين.
إذاً هناك ثلاث أنواع من الالتزام الذاتي الأخلاقي: الامتناع عن السلوك الهدام، الانخراط في السلوك البناء، ومساعدة الآخرين.الالتزام الأخلاقي هو العامل الذهني الذي يحرك الذهن في اتجاه بعينه، والذي يحمي سلوكنا بمعنى: عدم التصرف الهدام، التصرف الإيجابي، ومساعدة الآخرين. الالتزام الأخلاقي يحمي سلوكنا – يصونه باهتمام.
العامل الذهني الذي يطلق عليه "الموقف الداخلي الخاص بالاعتناء"
عامل ذهني أخر يصاحب الالتزام الذاتي يطلق عليه "الموقف الداخلي الخاص بالاعتناء". ويعرّف الموقف الداخلي الخاص بالاعتناء بأنه العامل الذهني الذي يتناول المواقف الخاصة بالآخرين والذات على نحو جدي بجدية، وبسبب هذه المواقف فإن الموقف الداخلي الخاص بالاعتناء يكون السبب في بناء عادة اتخاذ المواقف الداخلية البناءة والسلوك المساعد للصيانة ضد الميل نحو اتخاذ مواقف داخلية هدامة وسلوكيات مؤذية. الموقف الداخلي الخاص بالاعتناء يمكن أن يترجم إلى "أن تكون حذراً". على سبيل المثال، أنا أتعامل بجدية مع أن الصياح عليك سيجعلك تشعر بالسوء؛ بالإضافة إلى شعورك بالسوء فأني بالصياح عليك فأني سأكون مستاءً جداً. بعد ذلك قد لا أستطيع النوم وسأعاني. هل نأخذ الأمر بهذه الجدية؟ الموقف الداخلي الخاص بالاعتناء يساعدني في مراعاة تبعات سلوكي على الآخرين وعلى نفسي. إنه يساعدني على بناء بعض السلوكيات البناءة وتجنب السلوكيات المدمرة.
الموقف الداخلي الخاص بالاعتناء ضروري من أجل الالتزام الذاتي الأخلاقي فهو يساعدنا على أن نأخذمسألة تصرفاتنا بجدية؛ فهل إذا تصرفنا بشكل هدام أو إذا لم نقدم المساعدة هل سيتسبب ذلك في مشاكل. على سبيل المثال، دعونا نتخيل أنني رأيت أمرأة بعربة طفل والتي تجد صعوبة في حمل العربة أعلى السلالم. الموقف الداخلي الخاص بالاعتناء سيجعلني أفكر: "إذا لم أساعدها في حمل الطفل والعربة على السلم هذا سيكون أنانية مني. إذا كنت أنا من يحمل الطفل بالتأكيد سأرغب في أن يساعدني أحد."
مع الالتزام الأخلاقي، سأرغب دائماً في أن أذهب في اتجاه أن أكون محباً للمساعدة دائماً ً. إذاً سأحتفظ بالالتزام طوال الوقت لأن لدي هذا الموقف الداخلي الخاص بالاعتناء ؛ أنا أستخدم اليقظة لأبقي نفسي ملتصقاً بالالتزام؛ أستخدم التنبه لأن أكون واعياً إذا كان هناك أي انحراف؛ وأستخدم الوعي التمييزي لأقرر ما هو الملائم، ما هو غير الملائم، وما هو الأنسب للموقف – وليس بشكل أعمى أتبع القانون. نحن نقوم بهذا دون أن نكون متصلبين، لإننا ليس لدينا شعور ازدواجية "أنا" المجرم المحتمل على جانب، و"أنا" رجل الشرطة الذي على الجانب الآخر ويراقب طوال الوقت المجرم المحتمل.
عندما نتحدث عن "أنا" من وجهة النظر البوذية، فهناك ما يطلق عليه "أنا المعتادة" لذا يمكن أن نطلق على كل لحظة كـ "أنا" – أنا أقوم بذلك، أنا أقوم بتلك. و "أنا" ليست مجرد كلمة أو مفهوم؛ إنها تشير لشيئ ما. إنها ليست كيان مستقل يجلس بداخلنا في مكانما. إذا قمت بتقطيع الجسد أو أجزاء المخ لن يمكنك أن تجد هذه الـ "أنا". نحن لدينا جميع الأجزاء – جسد وذهن ومشاعر – التي تعمل، وتقوم بوظائفها على نحو جيد،"أنا" ليست شخصاً آخر لذا بالموقف الداخلي الخاص بالاعتناء ، نحن نهتم بأثر سلوكنا على "أنا" المعتادة. إذا لم يكن لدينا أي معنى لـ "أنا" المعتادة أو أي وعي بهذه الـ "أنا" المعتادة فلن نهتم بأي شيئ. لن أهتم بأن أصبح مستنيراً؛ لن أهتم بأن أنهض من الفراش في الصباح. لذاً هذه الـ "أنا" المعتادة لا نتجاهلها. مع ذلك عندما نرى أنفسنا كـ "أنا" صلبة، فعندها تحدث إزدواجية المجرم المحتمل ورجل الشرطة الذي يجب عليه أن يحرس؛ ونصبح متصلبين للغاية، غير مرنين، وهذا ينتج العديد من المشاكل.
إذا يجب أن نفرق بين "أنا" المعتادة الموجودة، وبين "أنا" الزائفة المستحيلة غير الموجودة إطلاقاً، هذا أمر ليس من السهل القيام به. هذا يتطلب قدر عظيم من التحري والتدبر. فإذا كنا أشخاص أخلاقيين ولدينا إلتزام أخلاقي، فإنه أثناء الطريق لتحقيق ذلك إذا كنا شديدي التصلب وعديمي المرونة ولسنا في حالة استرخاء – بعبارة أخرى لسنا مرتاحين – فعلى الأرجح نحن نتدرب على الالتزام على أساس من التفكر في "أنا" المستحيلة, “أنا" الصلبة. إذا كنا مسترخيين، فعلى الأرجح نحن نتدرب على الالتزام الأخلاقي بطريقة صحية أكثر. "مسترخين" لا تعني أن نكون مرتخين؛ تعني أن نكون مرنين ومرتاحين في سياق الالتزام الأخلاقي. إذا كنا نتصرف بطريقة تناسب الموقف، نأخذ في اعتبارنا منفعة الآخرين وما هو النافع والضار لأنفسنا، ففي الغالب نحن نمارس الالتزام الذاتي الأخلاقي كماي قصدتها التعاليم البوذية عن المواقف الداخلية بعيدة المنال.
الست مواقف الداخلية بعيدة المنال
المواقف الداخلية بعيدة المنال أو البراميتات الخاصة بالالتزام الأخلاقي، الصبر، الكرم، المثابرة الممتعة، الاستقرار الذهني، والوعي التمييزي يصبحون بعيدي المنال عندما يكون التدرب عليهم مصحوبا بدافع البوديتشيتا. (هناك أيضاً البراميتات في الهينايانا. في الهينايانا تعني التدرب مع التصميم على التحرر، التدرب مع التخلي. في الماهايانا هي عندما يتم التدرب عليهم مع البوديتشيتا. لذا فالبراميتات أو المواقف الداخلية بعيدة المنال توجد في كلاً من الهينايانا والماهايانا). على أي حال، إذا كنا نتدرب على المواقف الداخلية بعيدة المنال، الاكتمالات الست، فإنه ينصح أنه مع كلاً من الست يجب أن تتدرب على الخمس الآخرين في ذات الوقت. إذا مع الالتزام الذاتي الأخلاقي نحن نحتاج للوعي التمييزي للـ "أنا" المشاركة، للـ "أنت" المشاركة، للالتزام في حد ذاته؛ إدراك كيف تتواجد كل تلك العوامل، لأمر في شدة الأهمية
الخلاصة
هذا كان عرضاً لأساسيات الالتزام الذاتي الأخلاقي في البوذية. إنه تدريب محوري. الالتزام الذاتي الأخلاقي يتم التدرب عليه وتنميته بهدف الوصول للتحرر والاستنارة، ليس فقط لأن نصبح مواطنين جيدين أو أشخاص جيدة. فهو ليس قائماً على طاعة القوانين، سواء كانت مفروضة من قوى إلهية أو حكومية. فمفهوم كونك شخص جيداً أو سيئاً غير متواجد؛ ليس هناك ذنب ولا مكافئة أو عقاب. الالتزام الذاتي الأخلاقي هو عامل ذهني يتضمنواحد من الثلاثة أنشطة التالية: (١) تجنب السلوك الهدام (هدام للآخرين وللذات)، (٢) الانخراط في السلوك البناء، الإيجابي (مثل التأمل)، أو (٣) مساعدة الآخرين بأية طريقة ممكنة. هو إلحاح ذهني ضد التصرف بشكل هدام، تجنب عدم التصرف بشكل بناء، وعدم مساعدة الآخرين. هذا العامل الذهني الخاص بالالتزام الذاتي الأخلاقي يصاحبه الموقف الداخلي الخاص بالإعتناء ، اليقظة، التنبه، الوعي التمييزي.
الأسئلة والأجوبة
نحن نعرف الوسيلة لتنمية هذه الحالة، فهل سنحتاج الوسيلة للأبد، أم عند لحظة ما سنكون قادرين على المحافظة على هذه الحالة الذهنية دون جهد ودون استخدام تلك الوسيلة؟
نعم، في النهاية ستصبح جزءً من طبيعتنا. الإجراء الحقيقي مع كل التفكير الإيجابي الذي نحاول تنميته في تدريبنا البوذي هو (١) أولاً نحن نسمع عنه، ومن ثمه نتدرب فقط بناء على السمع عنه. لكن من ثم نحن نحتاج (٢) أن نفكر فيه حتى نصل لفهم واقتناع وأن هذا بالفعل حقيقي. إذا سمعنا فقط عن الالتزام الذاتي الأخلاقي ربما لا نتدرب عليه. لكن بعد السماع عنه والتفكير فيه فسنحتاج إلى (٣) التدرب عليه باستخدام التأمل كأساس، والذي يعني نحن بالفعل نُولِد الالتزام الذاتي الأخلاقي من خلال الأسباب، الإجراءات، والأدوات. فمن خلال استخدام اليقظة، التنبه، والعديد من الأدوات الأخرى نطور الموقف الداخلي الخاص بالاهتمام والذي سيدعم الالتزام الأخلاقي. هناك العديد من الأدوات التي ستساعدنا لتنمية الالتزام الذاتي الأخلاقي. تتضمن هذه الأدوات البقاء بقرب معلم روحاني أو جعل المعلم دائماً في اعتبارنا، أن كون في مجتمع ملائم يدعم نمونا، أن يكون حولنا أناس آخرون يتصرفون بذات الطريقة. هذا ما يطلق عليه النمو القائم على الجهد ؛ نحن بحاجة لأن نطور أنفسنا بكد، عمل، وجهد. في النهاية يصبح التدرب دون جهد؛ دون جهد يعني أنك لن تحتاج لأن تعتمد على الخوض في عملية معينة لتُذكر نفسك بهدفك؛ إنه فقط يحدث تلقائياً.
ضمن عهود البوديتشيتا (خاصة العهود الثانوية) قائمة من تسع أشياء لنتجنبها – سلوكيات ستعطل تنميتنا للالتزام الذاتي الأخلاقي. ذكرت بعضها؛ على سبيل المثال، أن نكون ضيقي الأفق عندما يأتي الأمر لمصالح الآخرين. نحتاج أن نذكر أنفسنا بهذا. نحتاج أن نذكر أنفسنا نضع هذا موضع التدرب لإننا نريد أن نتجنب المُخرَجات السلبية والتي ستؤذي تطورنا. عندما يصبح التزامنا الذاتي الأخلاقي دون جهد فهذا لا يعني أن نتجاهل عهود البوديساتفا؛ هذا لا يعني إننا لا نحتاجهم بعد ذلك. هذا فقط يعني إننا لسنا بحاجة لأن نذكر أنفسنا بشكل دائم، لإننا أصبحنا متذكرين للعهد بشكل تلقائي – هو دائماً حاضر. وليس مجرد "أنا أتذكره" كما في "أنا تذكرت الكلمة" أو "أستطيع أن كررها عن ظهر قلب"؛ بالأحرى يصبح الالتزام الذاتي مندمجاً في سلوكي وليس إجبارياً، الكثير من هذه التدريبات سنشعر إنها مصطنعة. فقط من خلال تكرارها كعادة تصبح طبيعة ومدمجة بسلوكنا. إذا استخدمنا المصطلحات بشكل فضفاض جداً، إنه الفرق بين الفهم النظري وغير النظري. (تقنياً هذا ليس الاستخدام الصحيح لكلمات نظري وغير نظري، لكن في الغرب نميل لاستخدام هذه الكلمات بشكل فضفاض بهذه الطريقة.) بعبارة أخرى، في البداية يكون لدينا فهم نظري للالتزام الذاتي، لكن في النهاية نحقق الفهم غير النظري له، ويصبح الالتزام الذاتي مُدمجاً في سلوكنا بطريقة طبيعية وعفوية.