الاتصال الأول مع البوذية
بعد سقوط الأسرة الهانية الحاكمة عام ٢٢٠ م أصبحت البوذية قوية في شمال الصين، ذلك الجزء الذي اقتطعته وحكمته سلسلة متوالية من الشعوب والولايات الصينية غير الهانية. وكانت أسرة وي الشمالية التوباوية الحاكمة (٣٦٨ – ٥٣٥ م) هي الراعي الأقوى للبوذية، وهي التي امتدت حتى منغوليا الداخلية وشمال الصين الهانية.

برز الأتراك القدامى – أول مجموعةٍ مسجلة تكلمت اللغة التركية على صفحات التاريخ – طبقةً من عمال الحديد الذين يعيشون في مدن مملكة توبا. ولكنهم نشئوا بلا شك قبيلةً متنقلة من البوادي حتى الشمال؛ لأن جبلهم المقدس أوتوكان كان موجودًا في منغوليا الوسطى على الجانب الآخر من صحراء جوبي، في الأراضي التي تقع تحت سيطرة توبا.
واتبع الأتراك القدامى تقليدًا دينيًّا خلطوا فيه الشامانية بما أسماه العلماء الغربيون "التنغرية"، وهو دين عبادة السماء بصفتها الإله الأسمى، وتبجيل بعض الجبال بصفتها مقاعد القوة. ولم تكن التنغرية قطُّ ديانةً منظمة، وظهرت بأشكال مختلفة عند جميع شعوب بوادي آسيا الوسطى تقريبًا: الأتراك والمنغول والتانغوتيون، بشكلٍ متساوٍ. وبشكلها التركي دعمَت البنية الاجتماعية التركية، التي كانت مبنية على أسس التسلسل الهرمي الخاص بالقبائل؛ بحيث تتمتع إحدى القبائل بالهيمنة، ويكون زعيمها هو مصدر سلسلةٍ هرميةٍ من الحكام بالنسبة للجميع.
فالشكلُ التركي للتنغرية يَعتبر أن أي زعيمٍ تركي يسيطر على أوتوكان هو الحاكم الأسمى على كل القبائل التركية، وتجسيدًا للحظ الطيب للمجتمع، فإذا تراجع حظ المجتمع خضع الخاقان للمحاسبة، ويمكن أن يُذبَح على أنه قُربان، وعندها ينتقل المُلكُ إلى ابنه.
في ظل نظامٍ إيماني كهذا واجه الأتراكُ البوذيةَ أولاً في مدن توبا، وكان ذلك يؤكد على تفاني العامة، وانصياع الكهنة للدولة، خاصة في شكله الصيني الشمالي. وقد ناسب هذا النمط الاجتماعي للبوذية بشكلٍ مريح الأفكار التنغرية التركية للسلسلة الهرمية القبلية.
وبحكم كونهم غير راضين عن حُكم توبا انتقل معظم الأتراك إلى غرب قانسو، التي تقع تحت سيطرة ولاية رورن-روان (٤٠٠ – ٥٥١ م). وقد حكم الرورن-روانيون الصحاري والمراعي الخضراء ومناطق الغابات، من كوتشا حتى حدود كوريا، بما في ذلك جزء كبير من منغوليا. وعندما اعتنقت روران روان تدريجيًّا التوخارية والخوتانية، بوصفهما صورتين من البوذية المتبعة في مدن واحات تركستان الشرقية التي سيطروا عليها، ونشروا فيها البوذية عبر ممكلتهم، التقى الأتراكُ القدامى مع هذا الشكل من البوذية ذي الأثر الإيراني كذلك؛ حيث تحول بوذا في الأوساط الزرادشتية إلى "ملك الملوك" و"إله الآلهة".
وأطاح بومين خان بالرون-روان عام ٥٥١ م، بادعائه الوصاية على جبل أوتوكان، وأعلن نفسه خاقانًا، وأسس الإمبراطورية التركية القديمة. وبعد سنتيْن انقسمت الإمبراطورية إلى قسميْن: شرقي وغربي.
إن الإمبراطورية التركية الشرقية الأولى (٥٥٣ – ٦٣٠ م)، التي أسسها ابنه موهان خاقان (حكم من سنة ٥٥٣ إلى ٥٧١ م)، وتمركزت في منغوليا، قد ورثت الموروث الروحي للشامانية والتنغرية. وبما أن هذا التقليد الديني كانت تنقصه بنية منظمة، فقد كان ضعيفًا في توفير قوة موحدة لبناء أمة جديدة. وبالنظر إلى نماذج مثل ولايات رون-روان وتوبا ويي أدرك الخاقان أن البوذية كانت قادرة على تنفيذ المَهمة. وبما أن الأتراك كانوا في الأساس على معرفةٍ بالأشكال الصينية الشمالية والتوخارية/الخوتانية للبوذية، لذلك كان الخاقان شديد الحماس لإيجاد مزيد من التواصل مع هذه العقيدة، وملاءمتها داخل غشاء العقيدة التركية التقليدية. فتمامًا كما كان يصلي الرهبان البوذيون من أجل رفاهية الولايات البوذية الصينية الشمالية، أمكنهم كذلك فعل الأمر نفسه بالنسبة للإمبراطورية التركية الشرقية. وبالإضافة إلى ذلك، مثلما توسعت حاشية بوذا لتشمل الآلهة الزرادشتيين، ومع كون بوذا ملكهم فيمكن توسيع الدائرة لتشمل العدد الكبير من الآلهة التركية كذلك.
وبعد انفصال إمبراطورية وي الشمالية استمرت ولاياتها اللاحقة الصغيرة في تأييدها للبوذية الصينية الشمالية؛ حيث تحولت اثنتان منهما: تشي الشمالية (٥٥٠ – ٥٧٧ م)، وجو الشمالية (٥٥٧ – ٥٨١ م) إلى ولايتيْن تدفعان الجزية للأتراك الشرقيين. ودليلاً على الصداقة بنى وزير تسي الشمالية معبدًا بوذيًّا على الطراز الصيني الشمالي للآلاف الستة من الأتراك، الذين كانوا يعيشون في تشانغآن. وقد استجاب موهان خاقان لتلك الخطوة بسرور، من خلال دعوة عدة رهبان صينيين هانيين شمالاً إلى حاميته في منغوليا لتعليم شعبه.