نقاء الاستمرارية الذهنية والنطاق المتقدم

عدم الوعي، المشاعر المزعجة وآثار الكارما ليس لهم بداية

لقد أثبتنا بالفعل أن لكلٍ منَّا استمرارية ذهنية شخصية ليس لها بداية أو نهاية، وأننا سنستمر في إعادة الميلاد. بدون بداية، استمراريتنا الذهنية أيضًا مختلطة بعدم الوعي، أو بلغة بسيطة، الارتباك. يشير هذا إلى عدم الوعي بقانون الأسباب والنتائج: نحن غير واعين بأن التعاسة تأتي من السلوك الهدام وأن السعادة تأتي من السلوك البناء. ويشير أيضًا إلى عدم وعينا الأساسي بالواقع: نحن غير واعين كيف نوجد، كل من حولنا، وكل الأشياء. بناء على عدم وعينا نمينا المشاعر والمواقف الداخلية المزعجة، ثم تصرفنا على أساس منها بطريقة قهرية هدامة أو بناءة مختلطة بالارتباك. هذا يترك آثار الكارما باستمراريتنا الذهنية، والتي تتضمن ميول الكارما وقوى الكارما الإيجابية والسلبية. بهذا، تصبح استمراريتنا الذهنية، والاستمرارية الذهنية للجميع، مختلطة بعدم الوعي، المشاعر المزعجة وآثار الكارما بلا بداية.

كيف تنتقل آثار الكارما بالاستمرارية الذهنية

ميول وإمكانيات الكارما ليسوا ظواهر ذات هيئة مادية ولا هم وعيًا بشيء ما. هما ببساطة معنونون على استمراريتنا الذهنية. على سبيل المثال، إذا شربنا قهوة اليوم، وكنا شربناها بالأمس، وشربناها اليوم السابق عليه، والسابق عليه، كطريقة لتصنيف وتنظيم تلك الأحداث سنقول أن هناك ميلًا لشرب القهوة. هذا الميل  ليس شيئًا ماديًا وليس وعيًا بشيء ما. هو ليس أكثر من مجرد عنونه لأحداث متشابه ذات تتابع.

 عدم وعينا ومشاعرنا ومواقفنا الداخلية المزعجة هي أيضًا ميول مكوِّنة لاستمراريتهم الخاصة. فكما أننا لا نشرب القهوة في كل لحظة من يومنا، فنحن أيضًا لا نغضب في كل لحظة. لكن هناك استمرارية وهي الربط بين تلك الأحداث المتشابه في سياق كونها استمرارية لتلك الأحداث. وعبر تلك الميول المعنونة على استمراريتنا الذهنية يتم حمل عدم الوعي، المشاعر المزعجة والكارما باستمراريتنا الذهنية والتي ستستمر في حملهم ما لم نقم بشيء لإيقاف هذا.

التشبث بالوجود الحقيقي الراسخ

يكمن عدم الوعي بالواقع خلف مشاعرنا المزعجة، ويكمن أيضًا خلف سلوك الكارما القهري الخاص بنا، عدم الوعي هذا قائم بالأساس على حقيقة أن أذهاننا تقوم بخلق مظاهر الوجود المستحيل للأشياء. في الحقيقة، أذهاننا تقوم بهذا في كل لحظة. بالتشبث بالوجود الحقيقي الراسخ، نتلقى تلك المظاهر الخادعة ونصدق أنها متوافقة مع الواقع. مع عدم الوعي، نحن لا نعرف إنها غير حقيقية.

كل من التشبث بالوجود الحقيقي الراسخ وعدم الوعي، المشاعر والمواقف الداخلية المزعجة، وميول وإمكانيات الكارما المعتمدة عليهم يشكلون جميعًا معيقاتنا الشعورية. تلك المعيقات هي ما يمنعنا من التحرر. عادة التشبث بالوجود الحقيقي لا تتسبب فقط في قيامنا بها التشبث، ولكنها أيضًا تخلق المظاهر الخادعة للوجود الحقيقي الراسخ، الطرق المستحيلة للوجود. تقوم عادات التشبث بالوجود الراسخ بهذا بشكل مستمر، أي ما يطلق عليه "العادات المستمرة". وتشكل تلك العادات المعيقات المعرفية التي تمنعنا عن الوصول للمعرفة الكلية للاستنارة. قبل التحرر، تتسبب تلك العادات في خلق المظاهر وأيضًا التشبث بكل من تَلَقي تلك المظاهر وتصديقها. وبعد التحرر وقبل الاستنارة، تستمر تلك العادات في خلق المظاهر، لكن التشبث بها هنا هو فقط في نطاق تلقي تلك المظاهر. في تلك المرحلة لا تتسبب تلك العادات في تصديق أن تلك المظاهر متوافقة مع الواقع.

الإدراك غير النظري للخلو، إنه ليس هناك شيئًا موجودًا مماثلًا لما يظهر لنا، يخلصنا من هذه العوائق، بناء على قوة الدافع خلف هذا الفهم: التحرر أو كلًا من التحرر والبوديتشيتا.

معنى الوجود الحقيقي الراسخ

هناك العديد من المستويات للوجود المستحيل التي تخلقها أذهاننا. على المستوى الأعمق، المستوى الأكثر عمقًا، إنه المظهر الذي نطلق عليه "الوجود الحقيقي الراسخ". في مدارس المعتقد الهندي المختلفة، يتم تعريف الوجود الحقيقي الراسخ بطرق مختلفة، لكن سنتفحص بالأساس تعريف براسانغيكا الهندي كما يفهمه تقليد الغيلوك التبتي.

يشير مصطلح "طرق الوجود" إلى ما هو إثبات حقيقة وجود الشيء. نحن هنا لا نتحدث عن طريقة وجود الشيء، وإن كان الفارق طفيفًا بين المعنيين. كلمة "حقيقي" هنا تشير إلى ما هو مثبت أو ما يُعتبر إنه حقيقة وجود الشيء. نقطة غاية في البساطة لتوضيح وجود الشيء، من منظور مدارس المعتقد السابقة على مدرسة براسانغيكا، هي قدرة الشيء على القيام بمهمة. إذا كانت الظاهرة قادرة على القيام بشيء ما، القيام بمهمة ما، فهذا إثباتًا على وجودها. هذه هي رؤية المدارس السابقة على براسانغيكا.

عندما تتحدث براسانغيكا عن الوجود الحقيقي، فهذا يعني أن هناك شيئًا بالظاهرة ذاتها يُثبت ويؤسس لوجودها. قد يكون هنا إما عبر امتلاك الظاهرة لقوتها الخاصة أو عبر اقترانها بعوامل أخرى للعنونه الذهنية النظرية.

عندما نفهم الخلو، نرى أنه هناك شيئًا غائبًا لما تشير إليه حقًا تلك الطرق المستحيلة في الوجود؛ ليس هناك شيئًا كهذا. لنفهم هذا، دعونا نستخدم مثالًا. قد نقول، "لدي جسد قوي". هذا لأن أذهاننا تجعل هذا يظهر لنا كأن هناك شيئًا بهذا الجسد يجعله قويًا، دون الاعتماد على أي شيء آخر. أيضًا أسباب "أنا قوي وأتمتع بصحة جيدة"، عوامل مثل الصحة الجسدية الجيدة، الحمية الغذائية الجيدة، التدرب الرياضي وما شابه، لا تظهر لنا. الجسد القوي لا يبدو إنه ينشأ من كل هذا، ولكنه يبدو شيئًا قويًا حقًا قائمًا بذاته عندما ننظر له بالمرآة.

إذا كان كَوْن الجسد قويًا هو شيئًا خاصًا بالجسد ذاته قائمًا عليه وحده، لكان حينها هذا الجسد قويًا في كل الحالات، حتى عندما يقارن بالأشياء الأخرى. بمقارنة جسد بجسد آخر، جسد الشخص الناضج أقوى، لكنه بالمقارنة بجسد الغوريلا الناضجة فهو ليس قويًا، هو ضعيف. تنشأ القوة معتمدة على العديد من العناصر. هي لا تعتمد فقط على الحمية الغذائية والتدرب الرياضي، لكن أيضًا على الأشياء الأخرى التي نقارن بينها. ليس هذا فقط، لكنها أيضًا تعتمد على كلمة ومفهوم "قوة".

بشكل ما نشير للأشياء التي نقوم بها كل يوم وعلى أساس من هذا تكون لدينا كلمة أو مفهوم "قوة". في أزمنة ما قبل التاريخ،  كلمة"قوة" كانت مجرد صوتًا لا معنى له لدى هؤلاء من بدئوا في التعرف على اللغة المنطوقة، ثم تم تحديد مفهومًا لها، تصنيف، وأيضًا كل الأشياء التي يضعها الناس بهذا التصنيف. ما الذي يحدد كون هذا الجسد قويًا؟ الشيء الوحيد الذي سيحدد هذا هو ما نطلق عليه "الإيعاز" أو العنونه الذهنية"، لا شيء خر. كل ما يمكننا قوله هو أن "قوي" هي فقط ما تشير إليه كلمة "قوي" عندما يتم إيعازها على شيء كأساس لها وعندما يكون هذا الشيء معنون ذهنيًا بهذا التصنيف: مفهوم "قوي". لكن لا شيء من جانب الظاهرة ذاتها يجعلها قوية. لا شيء يمكن العثور عليه.

يمكننا أن نتساءل، "لكن، أليس هناك خصائص مميزة لما هو قوي"؟ قد يقول البعض أن القدرة على رفع 100 كيلو جرام هي بالتأكيد خاصية مميزة للقوة، من جانب المحل. لكن لا، وهذا لأن خاصية رفع الأشياء الثقيلة تم اختلاقها بواسطة البشر، والذهن الذي فكر في مفهوم "القوة"، لكن يظل أنها بالكامل اصطناع ذهني. مع ذلك، أذهاننا تخلق هذا المظهر للجسد وقوته. "لقد قمت برفع 100 كيلو، أنا قوي للغاية". كما لو أن قوة جسدنا قائمة بذاتها وحدها.

على أساس من هذا المظهر والتصديق في إنه يشير لشيء حقيقي، نُغالي في خصائص ذلك الجسد ونولد التعلق، الكبرياء، والعجرفة. ننظر لشخص آخر يعتبر قويًا، ونشعر بالغيرة. أو، نرفع فقط 50 كيلو بدل 100 ونشعر بالغضب والإحباط. بتلك الطريقة تتولد لدينا كل المشاعر المزعجة على أساس من التصديق في المظاهر على إنها ممكنة حقًا.

هذا لا يعني إنه على المستوى النسبي لا يوجد شيئًا مثل "قوي". على المستوى النسبي، فيما له علاقة بالكلمات والمفاهيم، نحن أقوياء. لا مشكلة في هذا؛ نحن لا نقول أنه لا يوجد شيء على الإطلاق. نسبيًا، جسدًا يمتلك القوة، وبناء على الكلمة والمفهوم، يمكننا أن نقول أنه قوي بالمقارنة لطفل، أو ما شابه. لكن لا شيء من جانب قوة الجسد وحدها يؤسس لهذه القوة. لا شيء من جانب محل العنونه والإيعاز الذهني، سواء على المستوى النسبي أو المطلق.

هذا شرح مختصر. لكن نحتاج لأن نفكر فيه. إذا كان هناك شيئًا من جانب الظاهرة، القوة التي تجعلنا أقوياء بأنفسها، بقوتها الخاصة، عندها يجب أن نكون أقوياء حتى لو كنا مرضى، متقدمين في العمل أو أي شيء آخر. عندما نستخدم هذا المنطق، سنرى كم أن هذا سخيف.

الخلو

عندما نركز على الخلو، نحن نركز على أنه "لا شيء كهذا". إنه الغياب الكامل لما يشير إليه فعلًا المحل المشار إليه بمظهر الوجود الحقيقي الراسخ هذا. طريقة الظهور تلك لا تتوافق مع أي شيء حقيقي. ولم تتوافق أبدًا في أي وقت مضى. مصطلح آخر لها هو "السند الداعم". ليس هناك أي سند يدعم مظهر هذا الشيء المستحيل. عندما يكون هناك ظلًا لشخص ما على النافذة، فهناك سند داعم ألا وهو الشخص الواقف خلف النافذة مسببًا لسقوط هذا الظل. هنا، على الرغم من أن هناك مظهر الوجود الحقيقي الراسخ، لكنه على عكس هذا الظل الساقط على النافذة، ليس هناك شيئًا خلفه قائمًا بذاته يدعمه.

عندما نُركز على الخلو ونستغرق تمامًا فيه، بما يعني أن نكون في تركيز مثالي، عندها يتوقف الذهن عن خلق مظاهر الوجود الحقيقي تلك، ولا يوجد تصديق بها. نحن نتحدث عن حدوث الإدراك غير النظري. إذا كان إدراكًا نظريًا، فسيكون مختلطًا بالتصنيف، أي مفهوم الخلو. وهذه نقطة غاية في التعقيد.

المعيقات المعرفية والشعورية ليسوا جزءًا أساسيًا من طبيعة الذهن

المعيقات الشعورية، كما ذكرت، تشير إلى عدم الوعي والمشاعر والمواقف الداخلية المزعجة، وأيضًا لميولهم وإمكانياتهم. وهما ما يسببون الميلاد بالسامسارا وفقًا للشرح الخاص بالأنثي عشر رابط للنشوء الاعتمادي. ينشئون جميعًا عن التشبث بالوجود الحقيقي الراسخ ويمنعون التحرر. المعيقات المعرفية تشير إلى خلق مظاهر الوجود الحقيقي الراسخ والتي تنتج عن العادات المستمرة لهذا التعلق. عندما تخلق أذهاننا مظاهر الوجود الحقيقي الراسخ، يجعلون الأشياء تظهر مستقلة تمامًا وعديمة الصلة ببعضها البعض. عندما نتلقى تلك المظاهر، لا نكون قادرين على رؤية الصلة التبادلية فيما بينها وبين كل شيء آخر، خاصة فيما له علاقة بقانون الأسباب والنتائج السلوكية. تلك المعيقات المعرفية تمنع تحقيقنا لكلية المعرفة وبالتالي لا نعرف ما هي أفضل طريقة لمساعدة الآخرين. لا يمكننا رؤية كل أسباب مشاكلهم التي لا بداية لها أو ما هي النتائج التي لا نهاية لها لأي شيء نعلمه.

استمراريتنا الذهنية "لُوِثت" بهذه المعيقات الشعورية والمعرفية من اللابداية. لهذا السبب نحن لسنا متحررين من السامسارا ولا مستنيرين. لكن هل يمكن إزالة ملوثات تلك المعيقات الشعورية والمعرفية؟ هل هم جزءًا من الطبيعة الأساسية للذهن، أم هم ما نُطلق عليه "الملوثات العابرة"؟  إذا كانوا بالفعل من الخواص الأساسية المميزة لطبيعة الذهن، لكانوا حاضرين بكل لحظة. مع ذلك، هم ليسوا كذلك. هناك حالات، مثل عندما نكون مستغرقين في التأمل على الخلو، لا يكونوا موجودين. هذا يُظهر أنهم ليسوا جزءًا من طبيعة الذهن.

المعيقات الشعورية والمعرفية يمكن إزالتهم للأبد

السؤال التالي إذا كانوا ملوثات عابرة وليسوا جزءًا أساسيًا من الذهن، إذًا هل يمكن إزالتهم للأبد؟ للأبد تعني الإيقاف الحقيقي لهم، وهذه هي الحقيقة النبيلة الثالثة. على الرغم من أنه من توقف كلًا من المشاعر المزعجة والكارما، وأيضًا العادة المستمرة لخلق مظاهر الوجود الحقيقي الراسخ أثناء التأمل الاستغراقي على الخلو، إلا إنه عندما نخرج من حالة الاستغراق تلك، يرجع التشبث وخلافه مرة أخرى، ولذلك يمكن عنونوا على هذا الذهن. كيف يمكن التخلص منهم للأبد بحيث لا يرجعون أبدًا؟

الميول والعادات معنونون على سلسلة من الأحداث المتشابهة. يمكننا فقط أن نقول أن حاليًا هناك ميل باستمراريتنا الذهنية إذا كان هناك تكرارًا مستقبليًا لما بدأ بالفعل في التكرر. إذا لم يكن هناك تكرارًا مستقبليًا، حينها كل ما يمكن قوله أن كان هناك ميلًا أو عادة سابقة. لكنه لم يعد موجود الآن. على سبيل المثال، كان لدي عادة الكتابة بيدي اليمنى، والتي هي عادة راهنة للآن، لأني لا يزال بإمكاني الكتابة بيدي اليمنى في المستقبل. لكن إذا فقدت يدي اليمنى في حادثة، هل سيظل لدي هذه العادة؟ لا. كان لدي سابقًا عادة الكتابة بيدي اليمنى، لكن لا يمكنني القيام بذلك بعد الآن لأنه ليس لدي يد يمنى. لذا هي فقط عادة سابقة، وليست حالية. إذا أمكننا منع التكرار المستقبلي لخلق مظاهر الوجود الحقيقي الراسخ ومنعنا كلًا من تلقي تلك المظاهر والتصديق بها، عندها ستكون هذه العادة قد انتهت للأبد. لن ترجع مرة أخرى.

الاستغراق غير النظري على الخلو يزيل التشبث بالوجود الحقيقي الراسخ

كلما استطعنا البقاء أطول بهذا التركيز الاستغراقي غير النظري على الخلو، بدون مظاهر الوجود الحقيقي الراسخ ولا تعلق بتلك المظاهر، كلما أصبح هذا الميل والعادة أضعف. عدم الوعي قائم على التصديق بأن هذه المظاهر متوافقة مع شيء حقيقي، لكن مع التركيز الاستغراقي على الخلو، نختبر المزيد والمزيد من اللحظات التي نركز بها على أنه ليس هناك شيئًا مثل تلك المظاهر يتوافق مع الواقع. لذا، كلما بقينا أكثر بالتركيز الاستغراقي على الخلو، فسنصل في النهاية لإيقاف التصديق في هذه المظاهر الخادعة التي نتلقاها عندما نخرج من حالة التركيز الاستغراقي التي لا تتوافق مع أي شيء في الواقع. بعبارة أخرى، عادة التشبث بالوجود الحقيقي الراسخ ستضعف وتضعف حتى تتوقف تمامًا عن توليد التصديق بها.

عند هذه النقطة سنكون قد أزلنا المعيقات الشعورية وحققنا التحرر. هذا لأننا أزلنا وللأبد عدم الوعي وميوله، والتي بسببها كنا لا نعرف أن تلك المظاهر لا تتوافق مع أي شيء في الواقع. إنه عدم الوعي هذا الذي كان يولد تلك المشاعر المزعجة وأفعال الكارما القهرية التي تؤدي لبناء المزيد من آثار الكارما، وتلك المشاعر المزعجة هي التي كانت تقوم بتفعيل آثار الكارما التي تجلب علينا المزيد من إعادات الميلاد بالسامسارا. حين لا يكون هناك المزيد من عدم الوعي، عندها لا يكون هناك شيئًا يمكنه تفعيل آثار الكارما ولا شيء يغرز المزيد من آثار الكارما الجديدة، وبالتالي ينتهي وللأبد إعادة الميلاد المتكرر غير المتحكم بها.

إذا استطعنا البقاء مثبتين لأذهاننا للأبد على الخلو، مثلما سنفعل عندما نصبح بوذات، حينها لن يكون هناك أبدًا المزيد من خلق مظاهر الوجود الحقيقي الراسخ. أذهاننا لن تُنتج هذا الهراء وسنصبح كلي المعرفة، لأننا سنكون قادرين على إدراك كل الأشياء في تواصلها التبادلي فيما بينها. بهذه الطريقة نُثبت إمكانية تحقيق التحرر والاستنارة.

التخلي بلا جهد كقوة كامنة خلف فهم الخلو وتحقيق التحرر

الذهن الذي يفهم الخلو يحتاج لأن يكون ذا قوة معينة. يمكننا فهم الخلو فقط على المستوى التدرب النظري بالفصل الدراسي بالجامعة، لكن هذا لن يكون له قوة كبيرة. في الحقيقة، هذا النوع من الفهم يمكنه أن يقود إلى الكثير من العجرفة. إذا كان هذا الفهم خلفه قوة التخلي بلا جهد -التخلي المتولد تلقائيًا بدون الحاجة لتنميته- عندها سيكون لدينا طاقة كافية لنتمكن من تخليص أنفسنا من ميول عدم الوعي والمشاعر المزعجة، ومعهم أيضًا عدم الوعي والمشاعر المزعجة ذاتهم.

لماذا؟ لأن ما نتخلى عنه في الحقيقة هو نتاج تلك المشاعر المزعجة والميول. نحن نتخلى عن إعادة الميلاد بالسامسارا. هذا هو ما نعقد العزم على أن نتحرر منه ونكون عازمين على التخلي عن أسبابه. نحن نتخلى عن المعاناة تلك التجمعات التي تجتاح كل شيء. أي شخص يمكنه أن يتخلى عن الألم، لأن لا أحد يرغب في اختبار الألم. هذا ليس بالشيء الكبير. حتى الحيوانات لديها هذا التخلي. بالإضافة لهذا، الديانات الأخرى تتخلى عن السعادة الدنيوية من أجل أن يحظى اتباعها بجنة ما، لذا فهذا أيضًا ليس هدفًا قاصرًا على البوذيين. ما نتخلى عنه هو النوع الثالث من المعاناة، والذي هو أساس السامسارا. هذه النقطة غاية في الأهمية.

التخلي عن السامسارا: العزم على التحرر

ما هي خصائص السامسارا؟ الصعود والهبوط. أحيانا نشعر بمشاعر جيدة وسعادة، وأحيانًا مشاعر سيئة وتعاسة. ليس لدينا أي طريقة للتنبؤ بما سنشعر به في اللحظة التالية. حتى عندما نشعر جيدًا، سننفصل حتمًا عن هذا الشعور، أو سنكون غير راضين تمامًا، كما في حالة، "أنا لا أشعر جيدًا كفاية". هذه هي حالتنا بالسامسارا التي نتخلى عنها. نحن لا نتخلى عن الوجود أو الحياة. بالطبع، الحواجز النفسية قد تظهر، حيث نعتقد أننا سنفقد "إثارة" الصعود والهبوط وحياتنا ستكون خالية ومملة. لكن إذا قمنا بتحليل أعمق سنرى أننا إذا حققنا التحرر، ستظل لدينا التجمعات التي ستخلق كل لحظة بخبرتنا، وسيظل لدينا مشاعر، لكنها لن تكون مشاعر مزعجة. سيكون لدينا سعادة غير مزعجة وتوازن. سيكون لدينا حب، شفقة، صبر، كرم، عاطفة وما شابه، بدون أي مشاعر مزعجة.

باختصار، تلك هي الأشياء التي نعمل من خلالها لأجل أن نصبح حقًا من متدربي النطاق الأوسط. نحن واثقون من أن استمراريتنا الذهنية أبدية وليست بطبيعتها ملوثة بالمشاعر المزعجة، ولذا يمكننا إيقافها للأبد. لدينا أيضًا تعريف صحيح لما نتخلى عنه. عندما يتضح أمامنا كل هذا، نكون على الطريق لنكون من متدربي النطاق الأوسط.

البوديتشيتا بلا جهد كقوة كامنة خلف فهم الخلو لتحقيق الاستنارة

بالنطاق المتقدم، عندما يكون لدينا قوة هدف البوديتشيتا بلا جهد كقوة ذهنية لفهم الخلو، سنكون عندها قادرين على التركيز على الخلو للأبد وأن نتخلص أيضًا من المعيقات المعرفية.

لماذا؟ لدينا تلك الاستمرارية الذهنية التي بلا بداية ولا نهاية، غير الملوثة بنوعي المعيقات. مثلنا في هذا مثل الجميع. هذا أول شيء علينا إدراكه، وعلى أساس من هذا، لدينا التساوي تجاه الجميع. على سبيل المثال، عندما نرى الاستمرارية الذهنية التي بسبب الكارما هي الآن ذات صلة بجسد حشرة، فهذا لا يعني أن تلك الاستمرارية الذهنية من جانبها موجودة بشكل راسخ على هيئة استمرارية ذهنية لحشرة، على الرغم من أن أذهاننا تخلق مثل تلك الظواهر. ليس هناك شيئًا مثل الاستمرارية الذهنية لحشرة، أو ذكر أو أنثى، أو إنسان، أو مكسيكي، أو أي شيء. الفكرة هنا أن استمراريتنا الذهنية هي الأخرى خالية من الوجود بالطرق المستحيلة، الوجود بذاتها بحائط ضخم حولها، مستقلة. كل استمراريتنا الذهنية متفاعلة مع كل شيء آخر ومتأثرة بكل شيء آخر فيما له علاقة بما هو موجود، بلا بداية.

عندما نتدبر ونفكر في مفهوم الزمن الذي بلا بداية، سنرى إننا جميعًا لم نساعد فقط بعضنا البعض، ولكننا  كنا أمهات وأباء وخلافه لبعضنا البعض. علاوة على هذا، الجميع يرغب في أن يكون سعيدًا، لا أحد يرغب في أن يكون غير سعيد. هذا هو المبدأ الأساسي لجميع الاستمراريات الذهنية، وأننا جميعًا متساوون على أساس من هذا. جميعنا متصلون بشكل تبادلي وجميعنا لدينا ما يُطلق عليه "طبيعة بوذا"، والتي هي النقاء الأساسي لاستمراريتنا الذهنية الذي يسمح لنا أن نصبح مستنيرين. في الحقيقة، نحن مقتنعون بأن الجميع يمكنهم أن يحققوا التحرر والاستنارة. عندما نفهم خلو الاستمرارية الذهنية، عندها سنفهم أنه يمكن التأثير على الآخرين ومساعدتهم. تلك العلاقة السببية ممكنة بين الاستمراريات الذهنية، بدون مبالغة فيما هو ممكن أو إنكارًا له، بناء على فهم واقعي لتلك العلاقة السببية.

من فهم أن الجميع يمكنهم بذات الدرجة تحقيق التحرر والاستنارة، يكون لدينا شفقة عظيمة موجهه بالكامل للجميع. يمكننا رؤية الاتصال التبادلي بين كل شيء، لربما ليس بوضوح كامل، لكن يمكننا على الأقل فهم هذا المبدأ. نبدأ الآن في رؤية كيف أن قوة هدف البوديتشيتا شاسعة للغاية بحيث يمكنها أن تصبح سببًا لتحقيق الذهن كلي المعرفة الخاص ببوذا على هذا المستوى الشاسع.

هدف البوديتشيتا أساسه الشفقة وتحمل مسئولية الأخذ بيد الجميع للاستنارة. نطلق على هذا الحس بالمسئولية "العزيمة الاستثنائية". نرى أنه فقط عندما نصبح بوذات سنكون قادرين بالكامل على مساعدة الآخرين؛ لذا علينا أن نتخلص من كل من المعيقات الشعورية والمعرفية. عند هذه النقطة، نركز على استنارتنا الفردية التي لم تتحقق بعد، أي الحقيقة الثالثة والرابعة، الإيقاف الحقيقي لنوعي المعيقات والمثار الذهني الحقيقي الذي لم يحدث بعد باستمراريتنا الذهنية، لكنه ممكن الحدوث.

التركيز على استنارتنا الفردية التي لم تتحقق بعد

عندما نتحدث عن "المستقبل" في السياق الغربي، يبدو الأمر كما لو كان شيئًا يحدث بمكان ما هنا، كما لو أننا إذا تحركنا أسرع من سرعة الضوء، سيمكننا السفر إلى هذا المستقبل. هذا ليس الفهم البوذي. في البوذية نتحدث عن ثلاث أشياء، "ما لم يعد يحدث"، "الحادث الآن"، و"ما لم يحدث بعد". فقط ما إذا كان الشيء ممكنًا حتى يمكن التحدث عنه بصيغة "ما لم يحدث بعد". استنارتنا لم تحدث بعد الآن، لكنها ممكنة الحدوث على أساس من نقاء استمراريتنا الذهنية والأسباب التي نقوم ببنائها مثل شبكات القوة الإيجابية والوعي التمييزي المعنون على تلك الاستمرارية الذهنية، أو ما يُطلق عليه "مراكمة الاستحقاقات والحكمة". الاستنارة التي لم تحدث بعد معنونة على تلك الأسباب وعلى أساس من نقاء الذهن.

ما نهدف إليه بالبوديتشيتا هو أن يكون لدينا ذهنًا ذا نطاق شاسع هائل بشكل لا يصدق. هذه هي الماهايانا، الناقة الشاسعة للذهن. نحن هنا لا نتحدث عن سيارة، ولكن عن الفهم الذي سيجلب لنا الاستنارة. وهذا النطاق شاسع لأننا نفكر في كل الكائنات، والصلة التبادلية التي بينهم جميعًا. نحن أيضًا نفكر في سياق النقاء الكامل لاستمراريتنا الذهنية والاستمرارية الذهنية الخاصة بالجميع. هذا يمنحنا قوة لفهم الخلو ولأن نكون قادرين أيضًا على كسر عادات التشبث بالوجود الحقيقي الراسخ. بعبارة أخرى، نكون قادرين حينها على البقاء في استغراق كامل على الخلو، وللأبد.

التخلي لا يعني عدم جواز الاستمتاع بالحياة العادية

هذا ما لدينا بالنطاق الأوسط والمتقدم. نرغب في تحويل أنفسنا إلى أشخاص لديها هذه النطاقات بلا جهد وطيلة الوقت. كأشخاص في النطاق الأوسط، بغض النظر عما سنختبره أثناء وجودنا بالسامسارا، يفترض أن نراه نوعًا من المعاناة. هل هذا يعني أننا لن نستمتع بعد الآن وأننا سنكون متجهمين طيلة الوقت؟ لا، على الإطلاق. نحن فقط ببساطة لن نُخدع بما نراه. حتى إذا كان على المستوى السطحي، نرى أن كل شيء نشأ على أساس من الأسباب والشروط، وأنه سيتغير، ولن يدوم. نحن فقط نستمتع بكل ما يحدث دون مبالغة. نعم، نرغب في تناول الطعام، نستمتع بوجبتنا، لكن دون أن نفكر، "هذا رائع وبديع، أرغب في أكل المزيد والمزيد والمزيد". نبقى هادئين، نستمتع بالأشياء كما هي.

أن يكون لدينا موقف داخلي واقعي بشأن أجساد الأشخاص الذين نتفاعل معهم

في تفاعلنا مع الآخرين، سيكون من بينهم من نحن غاضبون منهم، هؤلاء من لا نهتم بشأنهم، وبالطبع هؤلاء من نحن منجذبين إليهم. حتى إذا لم نستطع تطبيق فهم الخلو، يمكننا أن نطبق مضادًا وقائيًا موقتًا، مثل التخيل. يمكننا تخيل أن لدينا إبصار مشابه للأشعة السينية وأننا ننظر للهيكل العظمي للشخص الذي نحن منجذبون إليه، أو حتى بشكل أكثر فاعلية، ما يقترحه شانتيديفا، نقوم بتقشير جلده عن جسده. نتخيل الشخص وما به من عضلات، أمعاء، معدة، رئة وما شابه، ونرى أنه بغض النظر عم كم نراهم جذابين أو منفرين، أنهم تحت تأثير المشاعر المزعجة ورحمة الزمن، وسيشعرون بآلام الظهر وما شابه. هذا يساعدنا على نزع فتيل الانجذاب أو النفور والغضب، لأن أغلب هذه المشاعر تكون مُنصبه على السطح الخارجي. من المفيد أن نحاول أن نتخيل هذا طيلة الوقت.

نتخلى، في هذا السياق إننا لا نرغب في أن يكون لدينا أي نوع من الانجذاب أو النفور، لأنهم سيتسببون لنا في المشاكل، التعاسة والمعاناة. نعقد العزم على التحرر منهم، بما يعني أننا بحاجة لتطبيق بعض المضادات للتخلص منهم. ليس كأننا لدينا أمنية لطيفة ولا نقوم بشيء بعد ذلك، "لربما ستزول مشاعري المزعجة وحدها إذا رددت صلاة ما بإخلاص كافي".

عندما نتخيل ما بداخل شخص ما، ما نراه موجودًا بالفعل. هو ليس خيالًا. مع ذلك، مظهرهم من السطح لا يزال موجودًا كما هو. نحن لا ننكر مظهرهم الخارجي. في النهاية سنصل للنطقة التي عندها لا نكون تحت تأثير الرغبة أو ما شابهها. عندها يمكننا ببساطة الاستمتاع بجمال هذا الشخص، أو جمال الوردة، أو وجبة الطعام، بدون مشاعر مزعجة، لأننا نفهم على المستوى الأعمق. كنتيجة لهذا، نبدأ فعليًا في رؤية جمالًا في الأشياء يتجاوز كل ما رأيناه سابقًا.

لأوجز الأمر باختصار، النطاق الأوسط يركز على التخلي عن المشاعر المزعجة وكامل وضعنا بالسامسارا الذي هو نتيجة لتلك المشاعر. نسخة الدارما المخففة ستكون بالتفكير في هذه الحياة. الدارما الشاملة هي بالتفكير في سياق كيف، إذا لم نخلص أنفسنا من المشاعر المزعجة، فسيكررون أنفسهم بلا نهاية عبر إعادات الميلاد المتكرر غير المتحكم بها. نحن بالتأكيد لا نرغب في هذا.

التفكير دائمًا في الآخرين

عندما نصبح أحد متدربي النطاق المتقدم لا نركز فقط في التغلب على مشاعرنا المزعجة تجاه كل الأشخاص والأشياء، ولكن أيضًا على مد نطاق شفقنا للجميع عبر رؤية أننا جميعًا في ذات الموقف. نحن جميعًا تحت تأثير الكارما والمشاعر المزعجة، لدينا صعود وهبوط معاناة السامسارا. كم هو من البشع أننا والجميع في هذا الوضع الشنيع.

عندما نركز على كونهم أمهاتنا الذي " لم يعد يحدث"، "ما يحدث الآن" كونهم حشرة مثلًا، واستنارتهم التي "ما لم تحدث بعد"، نخلق الصلة بينهم على ثلاث مستويات، تلك الصلة قائمة على فهم نقاء الذهن، أو طبيعة بوذا. هذا ليس بالأمر السهل. نحن لا نتحدث فقط عن هؤلاء من هم الآن على الهيئة البشرية. تخيلوا إذا كنا قادرين على خلق هذه الصلة مع الجميع، وأن تكون لدينا مع الجميع في ذات الوقت.

الخلاصة

استمراريتنا الذهنية بلا بداية ولا نهاية، وبالتأكيد سيُعاد ميلادنا. نحن لا نركز فقط على ما يحدث الآن، ولكن نفكر في سياق ما لم يحدث بعد. إذا لم نقم بأي شيء، وضعنا الذي يحدث الآن بالفعل بالسامسارا سيستمر هكذا للأبد. حتى على الرغم من أن استمراريتنا الذهنية التي بلا بداية مختلطة بالمعيقات الشعورية، يمكننا إزالتها للأبد. هناك التحرر الذي لم يحدث بعد والذي يمكننا عنونته على استمراريتنا الذهنية. بالضبط ذات الشيء ينطبق فيما له علاقة بطبيعتنا غير الملوثة بالمعيقات المعرفية. يمكننا أن نتطلع إلى استنارتنا التي لم تحدث بعد على أساس من استمراريتنا الذهنية. يمكننا أيضًا أن نفهم عددًا لا نهائيًا من الاستمراريات الذهنية في ذات الوضع مثلنا، ونرى الصلة التبادلية معهم جميعًا.

بوضعنا لهذا في اعتبارنا، نوجه تركيزنا بعيدًا عن هذه الحياة، ونتطلع للمستقبل. ثم، نوجه تركيزنا بعيدًا عن المستقبل في حدود السامسارا، ونتطلع للتحرر. بعد ذلك، نوجه تركيزنا بعيدًا عن التحرر ونتطلع لتحقيق استنارتنا التي لم تحدث بعد. كل من تلك المراحل لها التخلي الخاص بها، حيث نبتعد عن شيء بعينه. هنا، في النطاق المتقدم، يكون لدينا البوديتشيتا. كل هذا ممكن لأننا نفهم خلو الاستمرارية الذهنية.

تلك هي الجوانب الثلاثة الرئيسية للمسار الذهني، كما أكد عليها تسونغكابا. أن يكون لدينا التخلي، البوديتشيتا، وفهم الخلو. إذا اِتبعنا تلك الخطوات الواردة بالمسار المتدرج، نهدف بإخلاص أن نصبح تدريجيًا من متدربي تلك النطاقات الثلاثة، على الرغم من أن هذه مهمة ليست سهلة، بلا شك يمكننا أن نحقق تقدمًا على مسار أن نصبح بوذا وأن ننفع جميع الكائنات المحدودة.

Top