التدرب على الوعي التميزي السامي
مناقشة التدرب على الوعي التميزي السامي تبدأ في النصف الثاني من البيت الواحد وأربعين:
(41-ب) مع ذلك، إذا فشلت في إخضاع نفسك للتدرب على الوعي التمييزي الذي سيحملك بعيدًا، حينها لن تكون قادرًا على إفناء العقبات.
التركيز، السكون، الثبات الذهني والوعي الاستثنائي والقدرات المصاحبة له، كلهم سويًا ليسوا كافيين لتحقيق الاستنارة. لتحقيق الاستنارة يجب أن نخلص أنفسنا من مجموعتي المعيقات. المجموعة الأولى تشير إلى المشاعر والمواقف الداخلية المزعجة المختلفة التي لدينا وبذورهما، بذور الكارما أو آثارها. هذه المجموعة من المعيقات تمنعنا من التحرر من السامسارا. تعيق قدرتنا على رؤية الواقع بوضوح.
ثم المجموعة الثانية من المعيقات والمتعلقة بمعرفة الظواهر. تلك المجموعة الثانية من المعيقات هي التي كنا نشير إليها بالأمس في سياق الرؤية من خلال منظار الغواصة الضيق. تمنعنا من تحقيق الاستنارة بمعنى إنها تمنعنا من أن نكون قادرين على رؤية كل الكائنات الواعية وصلات الكارما بهم وجميع تأثيرات كل شيء نقوم به عليهم وأثر التعاليم التي سنقدمها على الأشخاص المختلفين، وما شابه. لذا، نحتاج لأن نخلص أنفسنا من تلك المجموعة الثانية من المعيقات من أجل أن نحقق الاستنارة.
ومن أجل إزالة كل من تلك المجموعتين من المعيقات سنحتاج للوعي التمييزي بالخلو.
(42) لذا، من أجل تخليص أنفسنا من جميع المعيقات، المشاعر المزعجة ومعرفة الظواهر، بدون استثناء، تأَمَّل دائمًا على يوغا الوعي التمييزي بعيد المنال مع الأدوات.
إذا تحدثنا عن المعيقات التي تمنعنا من التحرر فهم بالأساس جهلنا أو عدم وعينا بالخلو والمشاعر والمواقف الداخلية المزعجة التي تنبع من هذا وبذور الكارما الناتجة عن عدم الوعي هذا والمسبب في حدوثه مرة أخرى وآثار تلك البذور، بينما تشير المعيقات التي تمنعنا من الوصول إلى المعرفة الكلية إلى عادات عدم الوعي هذا. تلك العادات تتسبب في ظهور الأشياء أمامنا كما لو أن لها وجود حقيقي أو وجود راسخ -تأتي هذه العادات مع عدم الواعي، حيث نتشبث بتلك المظاهر ونصدق في الطريقة التي تظهر عليها.
لنخلص أنفسنا من مجموعتي المعيقات تلك نحتاج للوعي التمييزي بالخلو لنتخلص من وعدم وعينا. ونحتاجه لأن يقترن بالأدوات. الجلوس واكتساب الوعي التمييزي فقط لن يكون كافيًا.
(43) لهذا السبب فإن من حاز الوعي التمييزي المفتقِد للأدوات ومن حاز الأدوات المفتقِدة للوعي التمييزي قيل أنهما لا يزالان بالعبودية. لذا لا تهجر أبدًا إحداهما.
إذا كان لدينا الوعي التمييزي بالخلو فقط، ولكن لم نطور أنفسنا بأدوات مساعدة الآخرين وقمنا بالفعل بمساعدتهم، عندها فسيصبح ما لدينا مجرد معرفة نظرية، لأننا لا نطبق فعليًا ما نتعلمه بطريقة عملية. نحتاج لأن يصبح الوعي التمييزي أكثر عمقًا، نحتاج للقوى الإيجابية؛ وإلا فلن نكون قادرين على أن نصل إلى بصيرة أكثر عمقًا. هذا الوعي التمييزي وحده، إذا حاولنا الوصول إليه بطريقة نظرية محضه، بدون القيام بأي شيء لبناء شبكة القوى الإيجابية، فلن يكون عميقًا كفاية.
بشكل مشابه "الأدوات المفتقِدة للوعي التمييزي". بعبارة أخرى، إذا فقط حاولنا مساعدة الآخرين بقدر استطاعتنا، ولكن بدون الوعي التمييزي فيما له علاقة بما هو ملائم وما هو غير ملائم، كيف توجد الظواهر، كيف نوجد، وما شابه، عندها يمكن بسهولة أن تتحول مساعدة الآخرين إلى مشروع لتضخيم الذات وهذا أيضًا لن ينتج عنه التحرر أو الاستنارة. لذا، في كلا الحالتين "ستظل عبودية". ونحتاج للاثنين؛ لذا يقول أتيشا "لا تهجر أبدًا إحداهما".
الآن، ما حقيقة هذا التقسيم ما بين الوعي التمييزي والأدوات؟ يوضح أتيشا هذا في البيتين التاليين:
(44) للتخلص من الشك المتعلق بما يقع في نطاق الوعي التمييزي وما يقع في نطاق الأدوات، سأوضح حقيقة هذا التقسيم بينهما.
(45) وضح المظفرون أنه باستثناء براميتا الوعي التمييزي، كل شبكة العناصر البناءة، مثل براميتا الكرم وما شابهها، تقع بنطاق الأدوات.
ما يُطلق عليهم عادة "الأدوات والحكمة" يُعرَّفُوا في سياق المواقف الداخلية الستة التي ستحملنا بعيدًا أو البراميتات. الست براميتات هم، الوعي التمييزي، والذي من الواضح إنه يقع بجانب الوعي التميزي أو الحكمة بينما الخمس براميتات الأخرى فتقع بجانب الأدوات. تلك البراميتات الخمس الأخرى هم الكرم، الالتزام الأخلاقي، الصبر، المثابرة الفرحة، والثبات الذهني أو التركيز.
(46) نتيجة لقوة التأمل على الأدوات، ومن خلال التأمل العميق على شيء ما باستخدام الوعي التمييزي، الشخص الذي لديه طبيعة (البوديتشيتا) يمكنه سريعًا تحقيق الاستنارة. لن تصل للاستنارة عبر التأمل على انعدام الوجود المتأصل وحده.
ليكون التأمل على الوعي التمييزي قادرًا على اختراق عدم الوعي وعاداته وما شابه، سيحتاج هذا التأمل لقوى إيجابية عظيمة لتدعمه. لذا نحتاج قدرًا كبيرًا من الصبر، الالتزام، المثابرة، وطبعًا التركيز وخلافهن والكرم الذي سنستخدم به هذا الفهم لأجل أن نتمكن من مساعدة الآخرين، لنمنحه للآخرين.
إذا كان لدينا كل هذه البراميتات، ستتولد لدينا القوى الإيجابية العظيمة، ثم عبر "التأمل على الوعي التمييزي"، سيخترق هذا الوعي التمييزي عبر عدم الوعي وعاداته. ثم، إذا كانت لدينا "طبيعة البوديتشيتا"، أي طبيعة بوذا التي هي الأساس الذي لدينا جميعًا لنحقق الاستنارة، عندها يمكننا "سريعًا تحقيق الاستنارة"، بعبارة أخرى، إذا كان لدينا دافع البوديتشيتا. فقط "التأمل على انعدام الوجود المتأصل" وحده لن يكون كافيًا، لن يحملنا إلى الاستنارة.
عندما نتحدث عن الوجود المتأصل، فهذا يعني أن هناك كينونة لهذا الشيء -هذا ما تعنيه كلمة "متأصل"، إنه داخل الشيء- والذي بذاته يجعل هذا الشيء على ما هو عليه، يعطيه هويته. المثال الذي استخدمه دائمًا: إذا كنا نقود سيارة أو دراجة وهناك شخص آخر بسيارة على الطريق يحاول المرور من خلفنا، يحاول المرور منا، يزعجنا عبر استخدامه المتكرر للنفير وما شابه، فيبدو لنا الأمر كما لو أن "هذا الشخص أحمق"، هناك شيئ خطأ بشكل متأصل بهذا الشخص، والذي يجعله أحمق.
لا يبدو لنا طيلة الوقت أن تعريف الشخص بأنه أحمق يستند ويعتمد بالأساس على وجود مفهوم "أحمق" وعلى الموقف الذي نجد أنفسنا فيه مع هذا الشخص وكل تلك الأشياء المختلفة التي تحدث. يبدو لنا كما لو أن هناك شيء خطأ بهذا الشخص؛ إنه حقًا أحمق. لذا، هذا ما نعنيه بهوية متأصلة وإنها طريقة مستحيلة للوجود. لا شيء يوجد بتلك الطريقة بقوته الخاصة الكامنة بداخله والتي تجعله على هذه الشاكلة التي هو عليها، مستقلًا قائمًا بذاته منفصلًا عن كل شيء آخر.
حتى إذا تفحصنا هذا الأمر على مستوى أساسي للغاية، الشخص الذي بالسيارة مصنوع من ذرات، تلك الذرات مصنوعة من جزئيات صغيرة وطاقة -ما الذي بها يجعل هذا الشخص أحمق؟ لا شيء. غياب هذه الطرق المستحيلة للوجود، هذا ما نعنيه بالخلو. الخلو معناه أنه ليس هناك شيئ كهذا، الغياب التام، لم يكن هناك أبدًا هذا النوع من الوجود المستحيل.
(47) الوعي بخلو الوجود المتأصل المُدرِك أن التجمعات، مصادر المعرفة، ومثيرات المعرفة مفتقدِة للنشوء (المتأصل) تم شرحه بالكامل فيما يخص الوعي التمييزي.
سيكون علينا الآن أن نسرع قليلًا لأنه لم يتبقى لدينا الكثير من الوقت، لذا لا يمكنني أن أشرح كل شيء هنا، لكن "التجمعات، مصادر المعرفة ومثيرات المعرفة" هم كل شيء نختبره فيما له علاقة بالجسد، الذهن، المشاعر، المشاهد المختلفة، الأصوات التي نسمعها، إلخ.
عندما نتحدث عن الخلو "خلو الوجود المتأصل"، أنه ليس هناك مثل تلك الطرق المستحيلة للوجود، فنحن نتحدث عندها عن الوجود المتأصل لكل شيء نختبره. على سبيل المثال، نتحدث عن هذا الأحمق الذي يقود سيارته بجوارنا. الآن، هذه طريقة مستحيلة للوجود، أن هذا الشخص أحمق بشكل متأصل، أحمق متأصل الوجود. دعنا نتخيل شيئًا هنا: شخص ما، أحمق، بخط فاصل حوله مثلما في كتب رسومات الأطفال، فيصبح لدينا "هذا هو الأحمق" متأصل الوجود، أحمق متأصل الوجود.
ليس هناك شيئًا كهذا، لذا من الواضح أن مثل هذا الأحمق لا نشوء له، لا يمكن أن يولد أحمقًا ذا وجود متأصل، لأنه ليس هناك مثل هذا الأحمق ذي الوجود المتأصل. كيف يمكن لشخص بكتاب صور ملون أن يولد؟ لا أحد يوجد بهذه الطريقة. هناك غياب تام، وهذا هو معنى الخلو -الوعي التمييزي بهذا الخلو هو ما نتحدث عنه هنا فيما يتعلق بالوعي التمييزي الذي سيحملنا بعيدًا.
(48) إذا كان للشيء وجودًا متأصلًا (في وقت وجود سببه)، لكان من غير المنطقي له أن ينشأ. علاوة على هذا، إذا كان الشيء غير موجود إطلاقًا (بشكل متأصل) (ما كان يمكن له أن ينشأ)، لكان مثل زهرة تظهر بالفضاء من العدم. وأيضًا، لأن كلا خطئي التفكير سيؤديان أيضًا لنتائج غير منطقية، فالأشياء لا تنشأ بأي من الطريقتين (موجودة بشكل متأصل أو غير موجودة في وقت وجود أسبابها).
هناك بعض الزيادات التوضيحية بنص البيت. إذا قمنا بحذفها فسيُقرأ البيت كالتالي:
(48) إذا كان للشيء وجودًا متأصلًا لكان من غير المنطقي له أن ينشأ. علاوة على هذا، إذا كان الشيء غير موجود إطلاقًا لكان مثل زهرة تظهر بالفضاء من العدم. وأيضًا، لأن كلا خطئَي التفكير سيؤديان أيضًا لنتائج غير منطقية، فالأشياء لا تنشأ بأي من الطريقتين.
الغرض من هذا البيت هو توضيح أننا من أجل أن نصل للوعي التمييزي بالخلو، نحتاج لأن يكون لدينا ثقة به، ثقة بأنه ليس هناك مثل تلك الطرق المستحيلة للوجود. نكتسب تلك الثقة عبر الاقتناع المنطقي، عبر عملية استدلال منطقي، عبر المنطق. هذا المنطق هو ما يُطلق عليه "قانون المرفوع" بالمنطق الغربي. إذا كان الشيء موجودًا بشكل متأصل، فهو إما أن يكون على هذه الشاكلة، أو عكسها، أو كلاهما، أو ولا واحد منهما. وألا يكون الشيء بأي من تلك الاحتمالات الأربعة التي ليس هناك بديلًا عنها، فهذا يعني إنه مستحيل.
لذا تقول الأبيات، "إذا كان الشيء موجودًا بشكل متأصل في وقت وجود سببه، عندها لما كان من المنطقي له أن ينشأ". بعبارة أخرى، نحن نتحدث عنها في سياق السببية. لذا، إذا كان للشخص وجودًا متأصل كأحمق في وقت، على سبيل المثال، ولادته، عندها ما كان هناك داعيًا له أن يولد. هذه ليست أفضل طريقة لشرح هذا الأمر. دعوني أشرحه لكم بطريقة مختلفة. هذه الأبيات لا تتحدث عن سياق مماثل. هنا لا يجب علينا أن نتحدث فقط في سياق الهوية المتأصلة بأنها على هذه الحالة أو تلك، نحن فقط نتحدث عن الوجود المتأصل في العموم.
نحن نتحدث، على مستوى أكثر تعميمًا، عن كيف يوجد الشيء بالأساس؟ لذا إذا كان للشيء وجودًا متأصل -أي أن هناك شيئًا داخليًا به، نوعًا من الكينونة المتأصلة به، والتي تجعله، في العموم، موجود، مستقل عما حوله- حينها سيكون السؤال هو، كيف نشأ هذا الشيء؟ إذا كان بالفعل موجودًا بقوته الخاصة في لحظة وجود سببه، عندها كيف يمكن للشروط الخارجية والأشياء المختلفة المتسببة في وجوده أن تأتي به للوجود؟ لأنه موجود بالفعل بشكل متأصل راسخ مستقل وقائم على قوته الذاتية.
المثال المعتاد بالنصوص الكلاسيكية هو البذرة والبرعم: إذا كان البرعم موجودًا بالفعل في وقت وجود سببه، في لحظة وجود البذرة، عندها كيف يمكن للبرعم أن ينشأ عن هذا السبب؟ لن يكون هناك داعي لنشوء البرعم، هو بالفعل موجود بذات لحظة وجود السبب، البذرة. وإذا كان في لحظة وجود السبب، البذرة، لم يكن للبرعم وجود إطلاقًا وكان غير موجود تمامًا بشكل متأصل، إنه لم يكن هناك شيئًا بالبذرة يجعل البرعم غير موجود بشكل متأصل عبر قوته الخاصة. عندها لما كان يمكن له إطلاقًا أن ينشأ؛ لظلت البذرة على حالها هكذا دائمًا دون أن ينشأ عنها البرعم.
هل يمكن أن تعيد هذه النقطة؟
إذا كان هذا البرعم غير موجود بشكل متأصل في لحظة وجود سببه، أي البذرة، بعبارة أخرى إذا لم يكن هناك كينونة ما داخل البرعم، في وقت وجود البذرة، والتي جعلت البرعم بقوتها الخاصة غير موجودة حينها، لما أمكن له أن يوجد بعدها على الإطلاق.
لا شيء يمكن أن يُنشئه، أي البرعم، لأن هناك شيئ بالفعل موجود وبقوته الخاصة جعل البرعم غير موجود، لذا لا شيء يمكنه التأثير عليه، لأن أثره قائم بقوته الخاصة، مستقلًا ومنعزلًا عن كل شيء آخر. لذا فنشوءه سيكون مثل "الزهرة" التي تظهر سحريًا "بالفضاء من العدم"، لا يمكن لهذا أن يحدث. و"لأن كلا خطئي التفكير سيؤديان أيضًا لنتائج غير منطقية"، إذا قلنا "حسنًا، من جهة فهذا الشيء موجود بشكل متأصل، ولكنه من جهة أخرى ليس موجودًا بشكل متأصل". فهذا مستحيل أيضًا.
كيف يمكن لشخص ما بقوى خاصة، مثل ساي بابا، أن يجعل الأشياء تتجسد ماديًا، مثل زهرة تظهر بالفضاء من العدم، بدون أسباب؟
ألكس: حسنًا، لا تنشأ الأشياء على أساس من الوجود المتأصل -ليس هناك شيئًا يُدعى بالوجود المتأصل. لذا هو لا يجعل زهرة ذات وجود متأصل تظهر بالفضاء من العدم. ليس هناك شيئًا من جانب الزهرة يجعلها إما توجد بشكل متأصل قبل أن يجسدها ماديًا، ولا غير موجودة بشكل متأصل قبل أن يجسدها ماديًا. ولأنه ليس هناك شيئًا من جانب الزهرة يجعلها موجودة بشكل متأصل أو غير موجودة بشكل متأصل، لذا فعبر مجموعة من الأدوات، قدرته على التركيز وقدرته على التحكم بالعناصر وخلافه، يمكنه أن يجعل الشيء الخالي من الوجود المتأصل يتجسد ماديًا أو يتسبب في ظهوره. هذا الشيء ذي وجود نسبي، ولكنه خالي من الوجود المتأصل.
وهذا هو السطر الأول من التسبيب المنطقي لكون الأشياء خالية من كل من الوجود المتأصل ،عدم الوجود المتأصل، كلاهما، وما عادهم في لحظة وجود السبب. إذًا، كيف تنشأ الأسباب؟
(49) الظواهر لا تنشأ بذاتها، ولا من شيئ آخر (متأصل)، ولا من كليهما. ولا (تنشأ) من لا سبب. لهذا، كل شيء طبيعته الافتقاد للوجود المتأصل.
لنفترض البرعم، هل ينشأ عن البذرة؟ حسنًا، هل البرعم بالفعل موجود بالبذرة وبالتالي ينشأ بنفسه؟ حسنًا، هذا مستحيل. إذا كان الشيء موجودًا بالفعل، عندها كيف يمكن له أن ينشأ؟ مرة أخرى ليس من المنطقي أن يكون السبب هو ذاته النتيجة.
ولا يمكن للشيء أن ينشأ عما هو مختلف عنه بشكل متأصل. لأنه إذا كان للسبب خطًا راسخًا حوله وكذلك حول النتيجة وكان وجودهما قائمًا على قوتهما الخاصة، عندها لما كان ممكنًا للنتيجة أن تنشأ عن السبب. ما كان للسبب أن يقوم بأي شيء. لذا فلا يمكن للشيء أن ينشأ عن سبب مختلف عنه.
وبالتالي فالأشياء لا تنشأ عن أي من تلك الاحتمالات الثلاثة، لا تنشأ عن كل من أنفسهم وشيء آخر مختلف عنهم، شيئًا يجمع بينهما ولا شيئ مختلف عنهم. والأشياء لا تنشأ عن "لا هذا ولا ذاك" من الأسباب السابقة، أي لا تنشأ بطريقة مختلفة عنهما، أي لا تنشأ عن "لا سبب". لذا، ونتيجة لهذا، ليس هناك شيئًا ذا وجودًا متأصلًا فيما له علاقة بنشوء الأشياء سواء عن نفسها أو عن سبب آخر مختلف عنها.
(50) علاوة على هذا، عندما نحلل كل الأشياء ما إذا كانوا (بشكل متأصل) مفردًا أو متعددًا، حيث أنك لن تتمكن من الإشارة لأي شيء موجود قائمًا بطبيعته الخاصة، فيمكنك التأكد من عدم وجد الوجود المتأصل.
يتحدث أتيشا هنا عن حجة "لا مفرد ولا متعدد"، والتي تؤكد على إنه إذا كان الشيء موجود بشكل متأصل فإنه بالتبعية يجب أن يكون إما مفردًا أو متعددًا بشكل متأصل.
إذا تحدثنا عن "أنا" و"هويتي"، لنفترض كأب -أنا لست أبًا، وليس لدي أطفال- لكن لنفترض أن هويتي هي "أب"، إذا ما كان هناك وجودًا متأصلًا، أنا وأب، بخطوط محددة واضحة حولهما، في حالة صحة هذا الوجود المتأصل، فسيتوجب عندها أن يكون ما هو موجودًا إما هو شيئًا واحدًا متأصل الوجود أو هو أشياءً متعددة متأصلة الوجود. ولذا، إذا كان هناك شيئًا واحدًا فقط ذا وجود متأصل، لتوجب حتمًا حينها أن يكون "أنا" و"أب" متماثلين بشكل مطلق، كشيء واحد، مما يعني أنني سأكون أب حتى قبل أن يكون لدي طفل، وهذه نتيجة غير منطقية.
وإذا كانت هناك أشياء متعددة ذات وجود متأصل، لأصبح حينها الشيء الواحد المتأصل الوجود، أب، هو ذاته الشيء الآخر متأصل الوجود. لكان كليهما حتمًا موجودًا بشكل منفصل بقوته الخاصة. وبالتالي من هو الأب؟ لا يمكنه أن يكون أنا. هذا يعني أن هذه هي طريقة أخرى مستحيلة للوجود.
عبر تلك المُسببات المنطقية المختلفة نصل للاقتناع: نحن مقتنعون بأنه على الرغم من ظهور الأشياء لنا كأنها ذات وجود متأصل -هذا الشخص الذي يقود السيارة يبدو كأحمق بشكل متأصل- لكن هذا مستحيل، هذا المظهر لا يشير لأي شيء واقعي. على الرغم من أنه يظهر لنا كما لو أن هناك شيئ ذو وجود متأصل، مع ذلك، كما قال أتيشا، أذهاننا "ليست موجهة لأي شيء له فعليًا أي وجود متأصل". أنه مثل الوهم، يظهر كأنه موجود بشكل متأصل، لكنه ليس كذلك. نحن في الحقيقة لا نشير إلى أي شيء في الواقع ذي وجود متأصل، لأنه مستحيل.
لذا "يمكننا أن نكون متأكدين من عدم وجود الوجود المتأصل". هذا هو الخلو، أنه ليس هناك مثل تلك الأشياء المستحيلة. عندما نُركز على الغياب، "أنه ليس هناك شيئًا كهذا"، بقناعة إنه مستحيل، فهذا هو فهم الخلو، هذا هو الوعي التمييزي للخلو. ومن ثم، عندما نُعوِّد أنفسنا حقًا على هذا، فعندها لن نصدق بعد ذلك أن الأشياء توجد فعليًا بتلك الطرق الخادعة التي تظهر بها.
لذا، "على الرغم من أن هذا الشخص يظهر لنا كأحمق، كأحمق متأصل الوجود، أعرف أنه في الحقيقة غير موجود بتلك الطريقة. هو يتصرف بتلك الطريقة في سياق مفهومي أنا عمن هو الأحمق وفي سياق كل الظروف والملابسات المحيطة بالموقف". هذا الفهم يساعدنا على تجنب الغضب؛ لا نغضب. هذه طريقة التخلص من المشاعر المزعجة.
وكلما اعتدنا بشكل أكبر على عدم تصديق الوجود المتأصل، ألا نخدع بواسطته، في النهاية ستتوقف أذهاننا عن خلق مظهر الوجود المتأصل. عندها نخلص أنفسنا من معيق المعرفة الكلية -نستنير، نصبح كائنات مستنيرة.
ولكن من أجل أن يصبح اقتناعنا، من أجل أن نصبح مقتنعين بأن هذه طريقة مستحيلة للوجود، الوجود المتأصل، نحتاج أن نعتمد أولًا على متسلسلة من المُسببات المنطقية، لأن منظورنا العادي للأشياء لا يوحي لنا بصحة أيٍ من هذا. تلك المتسلسلة المنطقية موجدة بالنص، يقول أتيشا:
(51) علاوة على هذا، المُسببات المنطقية المذكورة في البيت السبعين بالخلو ومن الأبيات الأساسية بالطريق الأوسط وما شابههم شرحوا كيف أن طبيعة الأشياء أُثبت إنها خالية.
إذا هو يذكر هنا بعض المصادر، ثم يستطرد:
(52) مع ذلك، لأن هذا النص قد طال أكثر من اللازم، فأني لن أستفيض في هذا. ما شرحته كان فقط بهدف التأمل على نظام فلسفي مُثبت بالفعل.
إذًا، هو فقط يذكر تلك الأشياء بشكل مختصر، يقول أنه "لهدف التأمل"، بعبارة أخرى، الشخص يجب عليه أن يتأمل على هذا، أن يفكر فيه حقًا، يعتاد عليه، إلخ. وهذا الشرح للواقع قد تم "إثباته"، بعبارة أخرى، تم إثباته منطقيًا، ثم تم إثباته بعد ذلك عبر الخبرة الشخصية، عبر الخبرة الصحيحة. ما أن نصبح مقتنعين بصحة هذا، يمنحنا هذا الاقتناع الفرصة لأن ندرك فعليًا هذا، أن ندرك الأشياء بتلك الطريقة. لذا، فقط تم إثبات هذا؛ وليست مجرد مجموعة من الآراء الفلسفية غير الصحيحة.
ثم يلخص أتيشا قائلًا:
(53) وهكذا، حيث لا يمكنك أن تشير لتأصل وجد أي شيء، بدون استثناء، التأمل على انعدام الهوية المتأصلة هو التأمل على الوعي التمييزي.
بغض النظر عما تركز عليه، لا وجود متأصل لأي شيء، لا شيء ذو وجود متأصل. إذًا، ماذا عن الخلو ذاته؟ هل الخلو ذو وجود متأصل؟ وكيف ننتقل من الإدراك النظري للخلو إلى الإدراك غير النظري؟ هذان السؤالان شديدي الصلة ببعضها البعض.
(54) بالوعي التمييزي، لا يُرى أبدًا الطبيعة المتأصلة لأي ظاهرة؛ وقد شُرح أن هذا صحيح أيضًا فيما يخص تطبيق الوعي التمييزي ذاته. بهذه (الطريقة) التأمل (على الخلو) غير نظري.
عندما نتأمل على الخلو، سنكتسب أولًا إدراكًا نظريًا له. هذا الإدراك النظري سيُركز على الخلو من خلال فكرة ما عنه. وبالتالي بينما نتأمل، "حسنًا، ليس هناك وجودًا متأصلًا. هذا مستحيل وبالتالي فهناك انعدام تام له". كيف نُركز على هذا الغياب؟ حسنًا، يجب أن يكون لدينا فكرة ما عنه أولًا: أنه مثلًا خالي مثل الفضاء، غياب كل شيء. فنركز حينها على الخلو بشكل نظري من خلال فكرة تُمثل الخلو، أي فكرة ما مشابه لفكرة أنه خالي مثل الفضاء. هذه هي فكرة أنه، "ليس هناك شيئًا كهذا"، أي الغياب التام.
ولكن عندما نُركز نظريًا بتلك الطريقة، فكرة الغياب ذاتها، لا يمكن أن يكون لها وجود متأصل. وعندما نتحدث عن الغياب، لا يمكن أن يكون هناك شيئًا داخل الغياب يمتلك قوته الخاصة والذي يجعل الأشياء تغيب. لذا عندما نركز بشكل نظري على الخلو وتكون لدينا فكرة مشابهه للفضاء الخالي، الغياب، فكرة الخلو، كل هذا أيضًا يفتقد الوجود المتأصل. لا يمكننا أن نشير فعليًا لغياب الوجود المتأصل ذو وجود متأصل؛ هذا أيضًا مستحيل.
يعبر شانتيديفا عن هذا بطريقة رائعة في نصه، الانخراط في سلوك البوديساتفات. يقول أن يكون لدينا إدراكًا غير نظري للخلو هو أن يكون لدينا أذهانًا لا تُركز نظريًا على أي من الوجود المتأصل (أي الوجود المتأصل لكل الأشياء) أو اللاوجود المتأصل ( أي خلو الوجود المتأصل، حيث يظهر الخلو كشيء ذي وجود راسخ). عندما لا يكون لدينا إدراكً نظريًا لأي منهما بينما نستمر في التركيز على الخلو، حينها يكون لدينا إدراكًا غير نظري للخلو.
ولكن مع ذلك -وهذه نقطة غاية في الأهمية- فهذا الاقتناع بأنه ليس هناك شيئًا ذا وجودًا متأصلًا. بعبارة أخرى، مجرد الفراغ بدون اقتناع، هذا شيء عديم الفائدة. يظل هناك هذا الاقتناع -يتبقى لدينا هذا- بأنه ليس هناك مثل هذا الوجود المتأصل. هذا هو الإدراك غير النظري للخلو.
عندما نفهم خلو الظواهر، نصل للإدراك النظري للخلو. عندما نذهب أبعد من هذا ونصل لإدراك خلو الخلو، خلو ذلك الإدراك النظري للخلو، عندها فقط نكون وصلنا للإدراك غير النظري للخلو. هذا ما سيخلصنا حقًا من عدم وعينا، سبب مشاكلنا ومعاناتنا.
(55) هذا الوجود القهري الناتج عن الأفكار النظرية (للوجود المتأصل) والتي طبيعتها (الاصطناع المحض) بواسطة تلك الأفكار النظرية. لذا، الحالة التي نتخلص فيها من كل تلك الأفكار النظرية، دون استثناء، هي النِرفانا السامية المتجاوزة للأسى.
عندما نتحدث عن التشبث بالوجود الحقيقي، الوجود المتأصل، فهذا يحدث بطريقة متجسدة فقط مع الإدراك النظري. الجميع يقبلون هذا. لكن عادة التشبث بالوجود المتأصل موجدة مع الوعي الحسي بالظواهر. لذا فلن نتخلص من تلك العادة بمجرد التخلص من هذا الإدراك الحسي غير النظري.
لكن يتجسد لدينا هذا التشبث بالوجود المتأصل بهيئة نظرية، بإدراك نظري. لذا، التشبث بالوجود المتأصل يعني أن نتشبث بأن الأشياء توجد بشكل متأصل بذات الطريقة التي تظهر بها لنا، وهذا يعني أننا نصدق ما يظهر لنا. لذا، "كامل وجودنا" في السامسارا، مع كل المشاكل المصاحبة له، "تنتج عن هذه الأفكار النظرية"، بعبارة أخرى، عن التشبث بالوجود المتأصل.
والسامسارا "طبيعتها (الاصطناع المحض) بواسطة تلك الأفكار النظرية"، بعبارة أخرى، تلك الأفكار النظرية تخلق تلك الطريقة المستحيلة للوجود التي تظهر بها الأشياء -ولاحظوا هنا أن كل الأفكار النظرية تحتوي على تشبث بالوجود المتأصل- وعادة خلق مظهر الوجود المتأصل تلك. والتي يشار إليها هنا أيضًا بأنها السامسارا الخاصة بنا "الاصطناع المحض بواسطة تلك الأفكار النظرية".
لذا، "حالة التخلص من جميع تلك الأفكار النظرية بدون استثناء، هذه هي النرفانا" -والتي لا تشير هنا فقط إلى نرفانا التحرر، ولكن للاستنارة.
الآن يدعم أتيشا شرحه باقتباس لبوذا:
(56) بالمثل، قال القاهر المُتقِن المتجاوز للجميع، "الأفكار النظرية (للوجود المتأصل) هي عدم وعي عظيم، تلك هي ما تجعلك تسقط بمحيط الميلاد المتكرر غير المتحكم به.
تلك هي السامسارا.
عبر تثبيت الذهن بنقطة تركيز واحدة المتجنب للأفكار النظرية (للوجود المتأصل)، ستجعل (ذهنك) صافيًا بدون أفكار نظرية فقط كالفضاء".
"القاهر المُتقِن المتجاوز للجميع"، هذا هو معنى مصطلح باغافان؛ القاهر، هو من تخلص من جميع العوائق، أتقن كل الخصال الجيدة، المتجاوز لجميع البراهما.
إذًا يقول بوذا أنه عندما يكون لدينا تلك الأفكار النظرية، فهذا عدم وعي. الأفكار النظرية ذاتها ليست تشبث بالوجود الحقيقي… حسنًا، الأفكار النظرية ليست فقط، كما أقول، مجرد التفكير اللفظي، الخاصية الرئيسية بها هو إنها تعبر عن تشبث بالوجود المتأصل. وهذا هو المقصود بأن "الأفكار النظرية عدم وعي عظيم".
من المهم جدًا أن نحدد ما هو الخطأ في الإدراك النظري. الخطأ ليس في أنه يُركز على الأشياء من خلال فكرة ما عنها، حيث أن هذا هو الإدراك النظري -إذا لم يكن لدينا أدنى فكرة عما هو الخلو، كيف يمكننا التركيز عليه؟ لذا لن يكون هناك خطأً حينها. يقع الخطأ الأكبر عندما نتشبث بالوجود المتأصل بهذا الإدراك النظري. هذا هو مُسبب المشاكل. لذا فإن التشبث بالوجود المتأصل يصاحب الإدراك النظري، هذا الإدراك النظري جزء من التشبث بالوجود المتأصل، وهذا الإدراك النظري هو ما يجعلنا نسقط بالسامسارا.
يقول أتيشا "تثبيت الذهن بنقطة تركيز واحدة المتجنب للأفكار النظرية"، والطريقة الوحيدة التي يمكن بها أن تصبح أذهاننا خالية من الأفكار النظرية هي عبر فهم الخلو -ليس فقط الخلو، ولكن خلو الخلو. عبر البقاء بهذا الإدراك غير النظري للخلو، فعندها هذا سينقي أذهاننا، حيث تصبح أذهاننا "بدون أفكار نظرية"، بعبارة أخرى، دون تشبث بالوجد المتأصل، "فقط كالفضاء" حره من كل هذا.
البيت الثاني الذي يقتبسه أتيشا:
(57) أيضًا، ذُكر في الصيغة المختصرة للانخراط بالإدراك الغير نظري إنه، "إذا انخرط ورثة المظفرين
أي البوديساتفات.
في الدارما النقية حيث يتدبرون بتلك الحالة اللانظرية (للوجود المتأصل)، سيتجاوزون الأفكار النظرية التي يصعب تجاوزها وسيحققون تدريجيًا الحالة الخالية من المفاهيم".
هذا يعني إننا إذا كنا على مسار البوديساتفات، فعلينا حقًا أن نفكر في هذا -هذا معنى "التدبر"- أن نفكر بشأن ما المقصود بغير النظري، ما الغرض الفعلي من الإدراك غير النظري. عندما نفهم حقًا ما المقصود بغير النظري، عندها، ومن خلال التأمل المتوافق مع الفهم الصحيح، سنكون قادرين على اختراق مستوى الأفكار النظرية و"تحقيق الحالة الخالية من المفاهيم"، بعبارة أخرى الإدراك غير النظري للخلو.
تذكروا، عندما نتحدث عن الإدراك غير النظري، هناك نوعان. هناك الإدراك غير النظري الخاص بوعي الحواس -الرؤية، السمع، إلخ- طرق الوعي تلك بطبيعتها غير نظرية، لكن عدم الوعي يظل مصاحبًا لها. نحن غير واعون لكيفية وجود ما نراه. ليس هذا ما نهدف إليه، مجرد أن يكون لدينا وعي الحواس غير النظري؛ هذا لدينا بالفعل. ما نهدف إليه هو أن يكون لدينا إدراكًا غير نظري للخلو، هذا ما نهدف إليه وسنحققه فقط عندما نتخلص من التشبث بالوجد المتأصل. لذا، يجب أن نفهم جيدًا ما المقصود بعبارة "الحالة الخالية من المفاهيم".
(58) عندما تصبح واثقًا، من خلال تلك الأسئلة والمتسلسلات المنطقية، من كيف أن الأشياء خالية من الوجود المتأصل وتنشأ بدون (وجود متأصل)، تأمل بتلك الحالة الخالية من الأفكار النظرية (للوجود المتأصل).
أليس خلو الخلو هو الآخر مفهومًا نظريًا؟
يمكن أن يكون لديك مفهومًا نظريًا عنه، لكن ما نتحدث عنه هنا ليس فكرة خلو الخلو، ولكننا نتحدث عما نختبره بالفعل أثناء التأمل. لأنه عندما لا يكون لدينا مفهوم الوجود المتأصل ومن ثم نخلص أنفسنا من مفهوم غياب الوجود المتأصل، حينها لن يتبقى أي مفاهيم نظرية. عندها نصل للإدراك غير النظري. يتحدث أتيشا هنا عن عملية تأمل بعينها.
بهذا ننتهي من القسم الخاص بالتدريب على الوعي التمييزي السامي
النتائج الملموسة
(59) عندما تتأمل على الحقيقة بتلك الطريقة
في إشارة للتأمل على الخلو
وتحوز تدريجيًا (مرحلة) الحرارة وما بعدها، ستصل (لمرحلة) المبتهج بشدة وما بعدها، والاستنارة لن تكون بعيدة.
بمراحل الاستنارة يمر المتدرب بخمسة مسارات -تلك هي مسارات الذهن، بعبارة أخرى، خمسة مستويات مختلفة للذهن، مستويات للفهم. أول تلك المراحل هو مسار الذهن المسمى بالمراكمة أو بالبناء، عندما -إذا كنا نتبع مسار الماهايانا- عندما يكون لدينا البوديشيتا التلقائية؛ بعبارة أخرى لا نحتاج لبناء تلك الحالة من خلال جلسة تأمل نتبع فيها متسلسلة منطقية ما. ستكون البوديشيتا تلقائية بتلك المرحلة.
حينها ما سنقوم به بالأساس هو المزيد والمزيد من المراكمه أو البناء لشبكتي بناء الاستنارة والعمل على تحقيق الشاماتا، حالة الهدوء والثبات الذهني، والفيباشايانا، الحالة الذهنية استثنائية البصيرة، والتي هي الفهم الصحيح للخلو. لذا، هذا ما نقوم بالعمل عليه في هذا المسار الذهني الأول.
عندما نحقق بالفعل حالتي الشاماتا والفيباسنا، بعبارة أخرى، عندما نكتسب التركيز المثالي مع الفهم الصحيح للخلو -في البداية سيكون فهمًا نظريًا للخلو- عندها نحقق المسار الثاني، والذي يُطلق عليه التطبيق أو مسار الإعداد -نطبق فيه المهارات التي تعلمناها بالمسار الأول، التي طورناها بالمسار الأول، ونعمق فهمنا للخلو أكثر وأكثر. لذا، بالمسار الثاني عدد من المراحل المختلفة و"مرحلة الحرارة" هي أولهم.
لذا ما يقوله البيت هو إننا "عندما نتأمل على الخلو ونحقق تدريجيًا مرحلة الحرارة"، فهذا يشير إلى الإدراك النظري للخلو، ثم نحقق الإدراك غير النظري للخلو ثم نبدأ في التقدم بالمراحل العشرة للبوديساتفات، أو ما يُطلق عليه في السنسكريتية بومي. وأول تلك المراحل يُطلق عليها "المبتهج بشدة". لذا يقول أتيشا، "وبعد ذلك"، لأننا بالأساس بعدما نحقق الإدراك النظري بمرحلة الحرارة، الإدراك النظري للخلو، "نحقق مرحلة المبتهج بشدة"، والتي نُدرك بها الخلو بشكل غير نظري، ثم بعد ذلك، كما يشير البيت، "الاستنارة لن تكون بعيدة".
ثم بعدها نتقدم للمسار الرابع، وهو مسار التأمل أو تعويد أنفسنا على هذا الإدراك غير النظري للخلو بحيث نكون قادرين على أن المحافظة عليه ثابت طيلة الوقت، وليس فقط أثناء التأمل الاستغراقي، ويمكننا من خلاله أن نخترق كل ما يقف عائقًا أمام استنارتنا.
"الاستنارة لن تكون بعيدة" -المسار الخامس يُطلق عليه لا مزيد من التدرب، عندها نحقق فعليًا الاستنارة. لكن على الرغم من إنه من الممكن أن نحقق الاستنارة بتلك الطريقة، إلا أن هذا سيتطلب وقتًا طويلًا للغاية. علينا أن نبني قوى إيجابية لمدة يُطلق عليها "ثلاثة دهور غير معدودة"، ثلاثة زليون من الدهور.
الدهر الأول غير المعدود نصل فيه للإدراك غير النظري للخلو. لذا، ما أن نصل لهذا الإدراك، عندها لا نتشبث بالوجود الحقيقي القائم على النظريات والنُسق الفكرية. لكن يظل لدينا نشوء تلقائي للتشبث بالوجود الحقيقي. لذا بالدهر الثاني غير المعدود نحتاج لنتخلص من هذا. ثم، عندما نتخلص من هذا، نتخلص حينها من معيقات التحرر، بعبارة أخرى، نتحرر، نصبح أرهات.
لكن تظل أذهاننا تختلق مظاهر الوجود المتأصل نتيجة لعادة التشبث بالوجد الحقيقي. عملية خلق مظاهر الوجود المتأصل تلك تمنعنا من الوصول إلى الاستنارة أو كلية المعرفة. لذا يتطلب الأمر منا دهرًا غير معدود آخر لنتمكن من بناء المزيد والمزيد من القوى الإيجابية بحيث يُخلصنا إدراكنا غير النظري للخلو من تلك العوائق. لأنه بالأساس، إذا استطعنا المحافظة على تركيز إدراكنا غير النظري على الخلو بشكل دائم، بشكل مطلق، وللأبد، فعملية خلق مظاهر الوجد المتأصل لن تحدث أبدًا، انتهت.