التدرُّب على الالتزام السامي والتركيز السامي

الانخراط بالسلوك المستنير

ما أن أخذنا عهود البوديساتفا، والتي هي جوهر تنمية مرحلة انخراط البوديتشيتا، نحتاج عندها أن نتدرب بالفعل على ما يطلق عليه "السلوك المستنير"، سلوك البوديساتفا. هذا السلوك في حقيقته هو ما تُشكله عهود البوديساتفا؛ تُشكِّل تلك العهود هذا السلوك. يُشكِّلون أفعال الجسد، الحديث والذهن بحيث لا نتصرف بطريقة تعيقنا عن مساعدة الآخرين.

يمكننا مناقشة سلوك البوديساتفا بعدة طرق. أتشيا قام بعرضه في سياق "التدريبات الثلاثة السامية". وهي التدرب على الالتزام الأخلاقي السامي، التدرب على التركيز السامي، والتدرب على الوعي التمييزي السامي.

أول تلك التدريبات عن الالتزام الأخلاقي السامي. وهو ليس مجرد التزام التدرب مثلًا على لعبة أكروباتية ما، ولكنه التزام يخص سلوكنا الأخلاقي.

في نص اللام ريم التقليدي الذي اَتبعه هنا يوجد عرض للتدريبات الثلاثة السامية كتدرب مشترك بين هؤلاء من يتبعون مستوى الدافع الأوسط والمتقدم، لأنه لتحقيق التحرر أو الاستنارة، في كل من الحالتين، سنحتاج للقيام بهذه التدريبات. الفارق بين مستويي القيام بتلك التدريبات هو في سياق الدافع أو الهدف: ما إذا كنا نتدرب عليهم بهدف تحقيق التحرر لأنفسنا فقط أم لتحقيق الاستنارة من أجل نفع جميع الكائنات.

التدرب على الأخلاق السامية

يبدأ البيت الثاني والثلاثون بمناقشة التدرُّب على الأخلاق السامية. ونحتاج هنا لأن نفهم عرض أتيشا لتلك التدريبات الثلاثة السامية في سياق رؤيتهم في ضوء هدف البوديتشيتا. لذا، علينا أن نفهم تلك الأبيات في هذا السياق.

(32) إذا دربت نفسك جيدًا على التدريبات الثلاثة للالتزام الأخلاقي عبر العيش وفقًا للعهود التي طبيعتها انخراط البوديتشيتا والتي هي سبب تنقية كامل جسدك، حديثك وذهنك، احترامك للتدريبات الثلاثة الأخلاقية سيتزايد.

هناك ثلاثة جوانب للتدرب على الالتزام الذاتي -نتحدث هنا عن التزامنا الذاتي، وليس الالتزام الذاتي الخاص بمحاولة تهذيب شخص آخر- ويتم مناقشة هذا تحديدًا في التعاليم الخاصة بالبوديساتفات فيما له علاقة بالمواقف الداخلية التي ستحملنا بعيدًا أو البراميتات. ولدينا هنا، (1) الالتزام الأخلاقي بالامتناع عن السلوك الهدام، والذي يعني المحافظة على العهود. والتأكيد هنا على المحافظة على عهود البوديساتفات، ولكن كما أكد أتيشا، أساس هذا هو المحافظة على قدر ما من عهود التحرر الشخصي.

في اعتقادي أن أحد أسباب تركيز أتيشا على عهود التحرر الشخصي بسبب الوضع الذي كان سائدًا بالتبت في هذا الوقت والذي كان سببًا في دعوته للمجيء من الهند. تتذكرون، في هذا الوقت كان هناك سوء فهم شديد للبوذية، خاصة فيما له علاقة بالتدرب على التانترا. العديد من الجزئيات بتعاليم التانترا كانت تُؤخذ بشكل حرفي مما أدى إلى حدوث الكثير من التجاوزات خاصة فيما له علاقة بالقتل وإساءة السلوك الجنسي.

على سبيل المثال، إحدى أشكال سوء الفهم التي حدثت في تلك الفترة كانت تخص إحدى عروض التانترا والتي تتحدث عن تحرير الوعي إلى عوالم أسمى، العديدون أساؤوا فهم  هذا العرض على إنه نوع من التبرير الديني لقتل الآخرين معتقدين أنهم بهذا سيساعدونهم ويحررورنهم. إذا قمت بقتلهم بهذه الطريقة فأنت بهذا تساعدهم عبر إرسالهم إلى عالم آخر أسمى، ولكن هذا في حقيقته إيذاء شديد. بالمثل، آخرون انخرطوا في طقوس جنسية معتقدين أن ما يقومون به هو ما يعتبر تدربًا على التانترا في حين أن تعاليم التانترا الأصلية لا تدعوا لأي شيء كهذا ولا يصح تفسيرها بشكل حرفي.

وكان سبب دعوة ملك غرب التبت لأتيشا بالأساس هو لتوضيح تلك النقاط، ولذا أكد أتيشا كثيرًا في تعاليمه على أهمية المحافظة على عهود التحرر الشخصي، مثل عهود عدم القتل وتحديدًا عهود الامتناع، وأنه من الأفضل عدم الانخراط في السلوك الجنسي وأن هذا يشكل الأساس الملائم لسلوك البوديساتفات. لذا أعتقد أن تركيز أتيشا على تلك النقاط، بهذا النص، يجب أن تُفهم داخل هذا السياق.

ولكن أيضًا تأكيداته تلك يجب ألا تُفهم على أنها تخص حصرًا تلك الحقبة التاريخية. هي نصيحة صالحة لكل المواقف. في وقتنا الحالي، حيث أن هناك أيضًا الكثير من سوء الفهم فيما يخص التانترا، خاصة ما يخص الجانب المتعلق بالممارسات الجنسية، اشعر أن نصائح أتيشا شديدة الصلة أيضًا بوضعنا الحالي. هذا لا يعني أن على الجميع أن يصبحوا رهبانًا وراهبات من أجل أن يتدربوا على التانترا؛ ما هو مهم هو تجنب تطرف فهم التانترا بشكل حرفي.

"التدريبات الثلاثة على الالتزام الذاتي الأخلاقي السامي" هي (1) التزام الامتناع عن السلوك الهدام، بما يعني المحافظة على عهود التحرر الشخصي، (2) التزام الانخراط بالسلوك البناء، بما يعني تحديدًا التأمل والتدرب على التعاليم المختلفة، و(3) التزام تقديم المساعدة الفعلية للآخرين.

يقول أتيشا أنه عبر "التدرب على تدريبات الالتزام الأخلاقي الثلاثة"، بما يعني "عبر العيش بشكل يتوافق مع عهود البوديساتفات"، فهذا "سبب في التنقية الكاملة لكل سلبيات الجسد، الحديث والذهن"، لذا لا نتصرف بطريق سلبية، ومن ثمة، وعبر العيش بتلك الطريقة، سيزداد تقديرنا لقيمة تلك التدريبات الأخلاقية. كلمة "احترام" هنا تشير لفهمنا الكامل لفوائد الالتزام الأخلاقي، تقديرنا لها، ثقتنا بها، وتقديرنا لمدى مساعدتها لنا على تحقيق النفع للآخرين.

بهذه الطريقة نأخذ الالتزام الذاتي الأخلاقي على محمل الجد، والذي من الواضح للأسف أن الكثيرين لم يكونوا يقوموا بذلك.

(33) من خلال هذا (سنصل) إلى حالة الاستنارة الكاملة النقية بالكامل؛ ولهذا، عبر إلزام نفسك بعهود البوديساتفات، ستكمل الشبكتين اللتان تحتاجهما للوصول للاستنارة الكاملة.

 عبر المحافظة على عهود البوديساتفا بشكل صارم واِتباع قواعد الالتزام الأخلاقي الأخرى سنكون قادرين على تقوية و"استكمال شبكتي بناء الاستنارة". تحدثنا بالأمس عن تلك الشبكتين: شبكة القوى الإيجابية الناتجة عن المساعدة الفعلية للآخرين، التأمل، وما شابه، وشبكة الوعي العميق، الوعي العميق بالخلو. واللتان عادة ما يُطلق عليهم "المراكمتين، مراكمة الاستحقاقات والحكمة".

تتحدث عهود البوديساتفا، وخاصة في مجموعة العهود الفرعية، عن مجموعة من الأفعال ستُتلف تدربنا الفعلي على المواقف الداخلية الستة التي ستحملنا بعيدًا وستُعيقنا عن مساعدة الآخرين. إذا تجنبنا تلك الأشياء التي ستتسبب في إتلاف التزامنا وتركيزنا وتنميتنا للوعي العميق بالخلو، وقدرتنا الفعلية على مساعدة الآخرين بالمواقف المختلفة، فمن الواضح عندها إننا سنستطيع بناء وتقوية شبكتي بناء الاستنارة، كما سنستطيع استكمالها، ومن ثمة تحقيق الاستنارة.

لذا من الحيوي أن نبذل الجهد للإبقاء على عهود البوديساتفات من أجل أن نصل إلى الاستنارة. ويقول أتيشا هنا، وبشكل غير مباشر، أن المحافظة على عهود البوديساتفات شيئ لا غنا عنه من أجل الوصول للاستنارة، سواء اِتبعنا مسار سوترا الماهايانا، أو مسار تانترا الماهايانا. هناك البعض، مرة أخرى، ممن كانوا يعتقدون أنه يمكن التدرب على التانترا بدون، ليس فقط عهود التحرر الشخصي، ولكن حتى بدون عهود البوديساتفات، هنا أتيشا يؤكد على أن هذا فهم خاطئ.

التدرُّب على التركيز السامي

(34) أما بالنسبة للسبب الذي سيكمل تمامًا تلك الشبكتين اللتين من طبيعتهما القوى الإيجابية والوعي العميق، فقد أكد كل البوذات إنه تنمية الوعي الاستثنائي.

يقول أتيشا هنا أنه لنكون قادرين على "إكمال تلك الشبكتين"، وهما الشبكتين اللتان ذكرتهما من قبل، شبكة القوى الإيجابية وشبكة الوعي العميق، نحتاج لأن ننمي ما يُطلق عليه "الوعي الاستثنائي"، والذي ينبع من إتقان التركيز السامي. إذًا الالتزام الذاتي الأخلاقي ليس كافيًا، نحتاج أيضًا للتركيز. الآن، كأثر ثانوي لتحقيقنا للتركيز المثالي السامي سنحقق أيضًا الخمس أنواع من الوعي العميق، أحيانًا أشير إليهم اختصارًا بالإدراك المتجاوز، ولكن هذا مجرد جزءًا منهم -هناك خمسة من تلك القدرات المتجاوزة وهم، (1) القدرة الحركية المتجاوزة، مثل القدرة على الحركة السريعة للغاية، (2) القدرة البصرية المتجاوزة، القدرة على رؤية الأشياء من مسافة بعيدة لا يمكن في العادة رؤيتها، (3) القدرة السمعية المتجاوزة، مثل القدرة على سماع الأصوات البعيدة، (4) القدرة على معرفة الحيوات السابقة لنا وللآخرين، (5) القدرة على معرفة أفكار الآخرين.

تلك القدرات المتجاوزة ليست قاصرة على المتدربين البوذيين. أي متدرب بأي مسار سيحقق التركيز المثالي سيُحقق تلك القدرات كأثر ثانوي لهذا التركيز. بعبارة أخرى، هناك قدر هائل من المعلومات وإذا استطعنا التركيز بشكل كافٍ، يمكننا أن نصبح متلقين بشكل كافٍ لنقرأ كل تلك المعلومات ونعرف كل تلك الأشياء المختلفة. لذا، فهذا وعي استثنائي.

ما يقوله أتيشا هنا هو أن البوذات يؤكدون على أن هذا الوعي الاستثنائي غاية في الأهمية لنكون قادرين على استكمال تلك الشبكتين. كيف نفهم هذا؟ النقطة الرئيسية هنا هي أننا لا نتحدث عن اكتساب تلك القدرات الخمسة في أي سياق؛ نحن نتحدث عن اكتساب تلك القدرات فقط داخل سياق دافع البوديتشيتا. بعبارة أخرى، نحن نرغب فيهم من أجل التمكُّن من نفع جميع الكائنات. عندما نتحدث عن بناء شبكة القوى الإيجابية وتقويتها فهذا يعني بالأساس بناء القوى الإيجابية عبر المساعدة الفعلية للآخرين.

عندما يكون الآخرين في مشكلة، إذا استطعنا الرؤية لمسافات بعيدة جدًا أو استطعنا سماعهم، سيمكننا هذا من مساعدة هؤلاء البعيدين عنا، عما إذا كانت حواسنا محدودة نتلقى فقط ما يحيط بنا بغرفتنا. وبمساعدتنا لهم بسرعة، سنتمكن من التدخل سريعًا لمساعدتهم.

بشكل مشابه، إذا كان الآخرون يتصرفون بطريقة تُسبب المشاكل، إذا استطعنا فهم حيواتهم الماضية، إذا تمكنا من فهم بعض أسباب تصرفهم بهذه الطريقة فسيمنحنا هذا مؤشرًا لطريقة مساعدتهم. وخاصة عندما يكونون في حالة غير راغبين فيها في التواصل، من المهم للغاية أن نكون قادرين على قراءة أفكارهم ومعرفة ما الذي يدور داخل أذهانهم، مرة أخرى، من أجل أن نكون قادرين على تقديم التعاليم الملائمة لهم، لنكون قادرين على تقديم المساعدة الملائمة لهم. 
على الرغم من أن الوصف الوارد بالنصوص الكلاسيكية لهذه القدرات الناتجة عن الوعي الاستثنائي قد يجعل هؤلاء البوديساتفات يبدون كرجال ونساء خارقين، إلا أن هذه ليست روايات خيالية. لقد عشت بين هؤلاء المعلمين التبتيين العظام مدة كافية لأشاهد بنفسي أمثلة على مثل تلك القدرات الاستثنائية.

مع معلمي الشخصي، سيركونغ رينبوتشي، الذي قضيت معه تسع سنوات بشكل لصيق، على سبيل المثال، بإحدى المرات أثناء ذهابنا إلى أحد المراكز البوذية في دارامسالا وكنا  بالسيارة في الطريق إلى هناك، بينما كنا نقترب من المركز، أخبرنا رينبوتشي، "اِجروا سريعًا إلى هذا المبنى لأن شمعة مشتعلة سقطت الآن وحريقًا بدأ في المكان"، والذي من الواضح إنه شيء يستحيل عليه أن يراه من السيارة ببداية الطريق الصاعد إلى المركز. وبالطبع هرعنا إلى المكان وكان ما قاله صحيحًا، هناك شمعة سقطت وبدأ المكان بالاشتعال.

لذا، فقد رأيت أمثلة على تلك القدرات الاستثنائية. أو في سياق الحيوات الماضية، لم يكن ليتحدث عن أي معلومات تخص الحيوات الماضية، لكنه قد يقول، "هذا الشخص لي معه صلة كارما من الحيوات السابقة، سأكون قادرًا على مساعدته". وأحيانًا كان البعض يأتيه بمشاكلهم ويقول لهم، "ليس لدي صلة الكارما معك تمكنني من مساعدتك، لكن هذا المعلم لديه الصلة اللازمة لهذه المشكلة"، ويرسل هذا الشخص لمعلم يكون قدارًا على مساعدته.

وعلى الرغم من أن رينبوتشي لم يُظهر أبدًا أي قدرات جسدية خارقة -كان بدينًا للغاية، ثقيلًا، متقدمًا في السن، وعندما يجلس على وسادة التأمل على الأرض كان بحاجة لمن يساعده في النهوض- بإحدى المرات عندما كنت معه، نجلس قرب قداسة الدالاي لاما وهبت ريح أطارت إلى الأرض بعض الورقات من النص الذي كان قداسته يقرأ منه، فقفز رينبوتشي سريعًا أسرع حتى مما كنت أنا أستطيع وأخذ تلك الورقات وأعادها أمام قداسته. لذا فمن الواضح إنه كان قادرًا على القيام بهذا النوع من الحركات الجسدية التي لا يستطيع شخص عادي بحجمه وسنه يمكنه القيام بها.

مع هذا الوعي الاستثنائي وتلك القدرات المختلفة سنكون قادرين على مساعدة الآخرين بشكل أكبر، أكبر بكثير. لذا فهذا يساعد على بناء قوة إيجابية هائلة ستساعد على إكمال تلك الشبكة، وكنتيجة لهذه القوى الإيجابية الضخمة، سنتمكن أيضًا من بناء شبكة الوعي العميق بالخلو، لأنه بدون قوى إيجابية ضخمة لن نكون قادرين حقًا على الوصول لمثل هذا الفهم. يؤكد أتيشا على هذا في عدد من الأبيات التالية وأعتقد إنه يحاول إثبات تلك النقطة لدى قراءة أنهم إذا رغبوا حقًا في مساعدة الآخرين فهم بحاجة للتدرب على التأمل بشكل جاد وعليهم أن يكتسبوا هذا التركيز المثالي.

وأعتقد أيضًا أن السياق الذي يُدَرِّس منه يلعب دورًا في مثل هذه التأكيدات الواردة هنا، لأنه يؤكد على هذا الوعي الاستثنائي في سياق سلوك البوديساتفات وبناء الشبكتين. بهذا الوقت في التبت كان هناك الكثير من الممارسات غير البوذية الشائعة والتي كان يستمد منها ممارسيها بعض القدرات الاستثنائية، لكنهم لم يستخدمونها لنفع الآخرين، فقط للأذى. وحيث أن أهل التبت كانوا بالفعل معتادين على مثل تلك الممارسات والقدرات وخلافه، فأتيشا هنا يؤكد على أهمية استخدام مثل تلك القدرات الاستثنائية لنفع الآخرين والوصول إلى الاستنارة.

أعتقد أن فهم هذا السياق الثقافي قد يساعد على فهم سبب حديث أتيشا عن هذا الأمر والذي لن نجده في الكثير من النصوص الأخرى. سنحتاج لأن نفكر في هذا البيت في سياق قصة حياة ميلاريبا، الذي عاش بعد أتيشا بفترة قصيرة، لنقدر قليلًا المناخ الثقافي السائد في التبت الذي واجهه أتيشا ومهارته في تعليم الآخرين بطريقة يستخدم فيها ما هم معتادون عليه بخبرتهم الشخصية وإظهار كيفية استخدامه بالمسار.

يمكننا أن نفكر في موقف مشابه هذه الأيام، ليس في سياق الوعي الاستثنائي والقدرات الاستثنائية، ولكن في سياق التقنية. بدلًا من استخدام التقنية لأهداف تدميرية، يمكننا استخدامها بشكل نافع للآخرين بدافع البوديساتفات. لدينا نوعًا خاصًا بنا من الوعي الاستثنائي، لأن تلك التقنيات الحديثة تسمح لنا برؤية أشياء في الوضع العادي لم نكن لنتمكن من رؤيتها، أو سماعها، إلخ. لذا فهذه التعاليم ذات صلة، حتى إذا لم يكن لدينا أي خبرة أو شاهدنا مثل هذا النوع من القدرات الاستثنائية التي تأتي مع تنمية التركيز.

سأقوم فقط بقراءة الأبيات التالية لأن أتيشا يؤكد فيها فقط على أهمية تنمية هذا الوعي الاستثنائي لنتمكن من مساعدة الآخرين.

(35) الطائر الذي ليس لديه ريشًا بجناحيه لا يمكنه أن يطير، إذا لم يكن لديك قوة الوعي الاستثنائي فلن تكون قادرًا على تحقيق أهداف الكائنات المحدودة.

(36) القوى الإيجابية المتولدة لدى شخص يملك تلك القوى الاستثنائية ليوم واحد تفوق القوى المتولدة بمئات الحيوات لشخص عادي مفتقدًا لتلك القوى.

(37) لذا، إذا رغبت في بناء تلك الشبكتين سريعًا وبالكامل لأجل تحقيق الاستنارة، أبذل الجهد وبالتالي حقق هذا الوعي الاستثنائي. فلن تصل إليه بالكسل.

ثم يضيف أتيشا:

(38) شخص لم يحقق السكون والثبات الذهني لن يحقق الوعي الاستثنائي. لذا، بشكل متكرر، أبذل الجهد لتحقيق السكون والثبات الذهني.

يُشير مصطلح "السكون والثبات الذهني" إلى ما يُطلق عليه في السنسكريتية الشاماتا، أو في التبتية شينيا، ويُترجم أحيانًا إلى "الهدوء الثابت" أو "الهدوء الذهني". تتجاوز تلك الحالة الذهنية مجرد تثبيت الذهن على نقطة تركيز واحدة:

لا تكون فقط كل العوامل الذهنية في حالة من السكون والثبات الخالية من الشرود أو الخمول، ولا يكون فيه الذهن فقط مُثبتًا على نقطة تركيز واحدة -والذي ما تعنيه حرفيًا المقطعين "شين" و"يا" في المصطلح التبتي "شينيا"، الترجمة التبتية للكلمة السنسكريتية "شاماتا"- ولكن بالإضافة لهذا التركيز المثالي المتميز بالسكون والثبات، هناك أيضًا شعورًا بالانتعاش المُفرح، حالة ذهنية من الانتعاش المُفرح الناتجة عن قدرة الذهن على التركيز على أي شيء. لذا، فهناك شعور بهذا الانتعاش المُفرح، ابتهاج بهذه القدرة، بالإضافة إلى التركيز المثالي -هذه هي حالة "شينيا" أو "شاماتا"، هذه هي حالة السكون والثبات الذهني.

الوعي الاستثنائي هو أثر ثانوي ينتج عن تحقيق هذا السكون والثبات الذهني، ولا يمكن الوصول لهذا الوعي الاستثنائي بأي طرق أخرى. عبر تحقيق السكون والثبات الذهني هذا، عندها يصبح الذهن تلقائيًا قادرًا على التركيز، التركيز الشديد، ويتمتع بحالة من اللياقة، الانتعاش الفرح بتلك اللياقة الذهنية القادرة على التركيز التي تُمكننا من تلقي كل تلك المعلومات التي لن نكون قادرين في حالتنا المعتادة على إدراكها.

(39) مع ذلك، إذا ضعفت العوامل الداعمة لتحقيق السكون والثبات الذهني، حتى إذا تأملت بجهد شديد لآلاف الأعوام، فلن تصل لتثبيت الذهن على نقطة تركيز واحدة.

من أجل تحقيق حالة السكون والثبات الذهني سنحتاج لعدة عناصر، والتي ستكون داعمة لتدريب التأمل من أجل تحقيق تلك الحالة. بدون تلك العناصر الداعمة سيكون من المستحيل تنمية الثبات الذهني. ما هي تلك العوامل؟

(40) لذا، المحافظة جيدًا على تلك العوامل المذكورة في الفصل الخاص بشبكة التثبيت الذهني بنقطة واحدة. ثم ثبت ذهنك على شيئ بناء، أي أحد المحال الملائمة للتركيز.

هناك بالعموم ستة شروط أو ظروفًا ملائمة لتحقيق السكون والثبات الذهني.

أولهم هي أن نكون في بيئة مواتية. البيئة المواتية هي حيث نستطيع الحصول على الطعام والشراب بسهولة -نتحدث هنا عن مكان يمكننا أن نعتزل فيه لنتدرب على تثبيت الذهن بنقطة تركيز واحدة. وأيضًا أن يكون هذا المكان قد تم اعتماده أو الموافقة عليه من معلمنا الروحاني أو معلم مؤهل آخر قد استخدمه كمعتزل له.

أن يكون للمكان موقعًا جغرافيًا متميزًا، أي معزول، هادئ، بعيد عن هؤلاء من يضايقونا؛ يحيط بالمكان مساحات شاسعة تسمح بالرؤية الممتدة؛ لا يوجد بجواره صوت مياه جارية أو أمواج محيط. إذا كان هناك صوت مياه جارية فقد يعتقد البعض، "كم من الجميل أن يكون هناك تيار مياه جارية بجوار مكان تأملي"، لكن هذا عادة ما سيتحول لمصدر جذب لأذهاننا، سيفتننا، سيكون محلًا لشرود طويل، وسيضعنا في حالة من الخمول والنعاس، لذا فهذا ليس شرطًا مواتيًا لتنمية ذهن ساكن وثابت. نفس الشيء مع أصوات المحيط. يجب أن يكون المكان هادئًا للغاية، بدون أي من تلك الأصوات. ويجب أن يكون مناخه جيدًا. كل هذا يخص الموقع الجغرافي.

المكان يجب أن يكون به صحبة متميزة من الأصدقاء وهؤلاء من يتشاركون معنا في ذات التدرب، هم إما يتدربون معنا أو يعيشون قريبًا منا. أيضًا تقول النصوص أننا بحاجة لأن يكون لدينا "أشياءً المطلوبة لمساعدتنا على خلق رباط جيد مع التدرب". بعبارة أخرى، يكون لدينا نصوصًا وأشياءً تمنحنا معلومات عن التدرب. ندرسهم ونفهم جيدًا قبل الدخول في المعتزل، ولكن نأخذهم معنا للمعتزل كمراجع، في حالة إن كان لدينا المزيد من الأسئلة. لكن من المهم جدًا قبل البدء بمثل هذه المعتزلات أن نصل لإجابات على أي أسئلة لدينا.

لذا، يقع كل هذا تحت الشرط أو الظرف الأول، المكان المواتي. الثاني هو أن يكون لدينا القليل من التعلق. أكبر المشتتات هو تعلقنا بالأشخاص، الأصدقاء، الأحباء، الطعام، الملبس، التعلق بتلقي الهبات، التعلق بالراحات، التعلق بالنوم -تلك الأشياء، أن يكون لدينا القليل منها، وإلا سيكون صعبًا للغاية أن نُحقق التركيز الذهني.

ثم الشرط أو الظرف الثالث هو أن يكون لدينا رضا -الرضا عما لدينا من الطعام، الملبس، المناخ، وما شابه. ثم الشرط الرابع هو أن نخلص أنفسنا من الانشغال الذهني الناتج عن الأنشطة الكثيرة المُشتتة، مثل الرسائل البريدية المتعلقة بالعمل والشئون الدنيوية وطبخ الأطعمة صعبة الإعداد والتي تتطلب الكثير من الجهد والوقت وكل هذه الأشياء. صحيح؟ لا مكالمات هاتفية بينما نحن في المعتزل ولا تلفاز أيضًا.

ثم الشرط الخامس هو الالتزام الأخلاقي النقي. والشرط الأخير هو أن نخلص أنفسنا من الأفكار المسيطرة تجاه الأشياء التي عادة ما نحبها وأفكار الكراهية تجاه الأشياء التي عادة ما لا نحبها، أفكار من نوعية، "أنا شخص يجب أن استمع إلى الموسيقى طيلة الوقت"، أو"يجب دائمًا أن أراجع خريطة النجوم الخاصة بي"، وهذا النوع من الأشياء. "يجب أن أقرأ رواية ما قبل النوم"، أو الاستماع إلى الموسيقى، "يجب أن استمع إلى الموسيقى، يجب أن آخذ معي الموسيقى التي أحبها".

لذا، نحتاج لتلك العناصر التي ستمنحنا الشروط الملائمة لتحقيق السكون والثبات الذهني. بدونهم، كما يقول أتيشا، "حتى إذا تأملت لآلاف السنوات، لن تصل لتثبيت الذهن على نقطة تركيز واحدة".

عندما نتأمل، كما يقول أتيشا، "ثبت ذهنك على شيئ بناء، أي أحد المحال الملائمة للتركيز". بعبارة أخرى، نختار محلًا بعينه ولا نغيره. وعندما نقول "شيئ بناء"، فنحن لا نتحدث عن شيئ ذي طبيعة محايدة مثل التنفس. على الرغم من أننا يمكننا تحقيق الثبات الذهني بالتركيز على التنفس، لكن كتدرب للبوديساتفات يجب أن نختار شيئًا بناءً، مثل، على سبيل المثال، تخيل صورة بوذا.

لأننا إذا ركزنا على صورة بوذا، فهذه الصورة تمثل حالة الاستنارة التي نهدف إلى تحقيقها بدافع البوديتشيتا، ولذا فهذا يساعدنا كثيرًا -في نفس الوقت بينما نحقق التركيز- نعزز دافعنا بالحياة نحو بوذا، دارما والسانغا والبوديتشيتا الخاصة بنا، لذا فهذا محل بناء للغاية لنركز عليه. نحتاج لأن نكون قادرين على تنمية الذهن المُركز على نقطة واحدة والسكون والثبات الذهني عبر الذهن النظري، وليس عبر وعي الحواس، لأننا سنحتاج أن نستخدم التركيز المثالي لهذا الذهن النظري في فهم الخلو.

(41-أ) عندما يُحقق المتدرب المتقدم حالة السكون والثبات الذهني، يحقق هو أو هي أيضًا الوعي الاستثنائي.

هذا مجرد ملخص: عندما نصل لحالة الشاماتا، عندها سنحقق تلك القدرات الاستثنائية التي تحدثنا عنها لاحقًا.

إرشادات إضافية لتحقيق التركيز من خلال تثبيت الذهن على تخيل بوذا

دعوني هنا أتحدث قليلًا عن تنمية التركيز عبر تثبيت الذهن على تخيل صورة بوذا. عندما نقوم بهذا، نحتاج لأن نكون معتادين على شكل هيئة بوذا ويمكننا القيام بهذا عبر رؤية لوحات أو تماثيل بوذا. لكن عندما نتخيل بوذا، نحن لا ننظر بأعيننا لتلك الصور، بدلًا من ذلك نقوم ببناء هذا التخيل أو التصور بمخيلتنا. التخيل هنا لا يعني أننا نختلق شيئًا من اختراعنا أو إبداعنا. ما نتخيله قائم على ما تبدو عليه الصورة التقليدية لبوذا، لأن لدى بوذا خواص جسدية مميزة يشار إليها بالاثنين وثلاثين علامة كبرى وثمانين علامة صغرى والتي كل منها لها معنى غاية في العمق، وبالتالي فهيئة بوذا ذات خصائص محددة للغاية. كل من تلك الخصائص الجسدية تمثل أحد أسباب تحقيق الاستنارة.

عندما نتخيل بوذا، نتخيله بحجم صغير، بارتفاع بضع سنتيمترات، ثلاثي الأبعاد، حي، مصنوع من النور، شفاف الضياء. لذا، نحن لا نتخيل رسمة ما، لا نتخيل تمثالًا ما، لا نتخيل شيئًا صلبًا. ونتخيله على بعد ذراعٍ منا وبمستوى الجبهة. ولا تكون أعيننا مغلقة أو تنظر مباشرة لموضع ما نتخيله، ولكن بدلًا من ذلك تركز أعيننا باسترخاء نحو الأرض بينما نحافظ على التخيل عاليًا بمستوى الجبهة. وما أن نختار محل تركيزنا، هيئته وحجمه وخلافه، لا نغيره. نتدرب عليه.

على أي حال، هذه فقط بعض المعلومات عن كيفية القيام بهذا التدريب وكيفية القيام به إذا لم تكونوا قد سمعتم عنه من قبل. لكن من الواضح، إذا رغبتم في القيام بهذا التدرب، ستحتاجون للمزيد من الإرشادات. في الحقيقة، هذا التدريب صعب للغاية لأغلب الغربيين غير المعتادين على هذا النوع من بناء التخيلات. لكن ما هو مهم هنا، في البداية، أن تكون جلساتكم قصيرة للغاية، فقط لبضع دقائق. لا تحاولوا الضغط على أنفسكم لتتدربوا لفترات طويلة، لأن هذا قد يؤدي لخطر اضطراب طاقة الجسد عبر الضغط والمحاولة الشديدة. لذا، يجب أن تكونوا حذرين.

Top